جاء في “الراي”:
تَقاسَمَ المشهد في بيروت أمس الصوتُ الأعلى لرأس الكنيسة المارونية البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي نَطَقَ بـ«وجع أهالي القرى الحدودية في الجنوب» ورفْضهم أن يكونوا «رهائن ودروعاً بشريّة وكبش محرقة لسياسات لبنانية فاشلة، ولثقافة الموت التي لم تجرّ على بلادنا سوى الانتصارات الوهميّة والهزائم المُخْزِية»، وتطوراتِ الوضع على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية حيث ارتسمتْ معالم ارتقاءٍ نوعيّ في استهدافات «حزب الله» الذي بدأ يُنزل الى الميدان «مفاجآتٍ» من صواريخ دقيقة وموجّهة، وذلك على وقع رفْع تل أبيب منسوب تهديداتها كما استعداداتها التي اتخّذت شكل تدريبات أقرب إلى «المحاكاة» تحت عنوان «تعزيز الكفاءة والجاهزيّة للحرب».
ولم تكن عاديةً الصرخةُ التي أطلقها الراعي في ما خص الواقع على جبهة الجنوب الذي أطل عليه من الفراغ الرئاسي المتمادي منذ 1 تشرين الثاني 2022 إذ اعتبر «أن الدولة المبتورة الرأس أصبحتْ بمقدّراتها الكبيرة فَريسةَ الفاسدين المعتدين عليها والعاملين بكلّ وسعهم على عدم انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة ليخلو لهم الجوّ والوقت الطويل لقضْم مالها ومؤسّساتها، وإشاعة حالة من الفوضى تسمح للنافذين بتمرير ما هو غير شرعيّ، بواسطة فائض القوّة».
وأضاف: «يعرب لنا أهالي القرى الحدوديّة في الجنوب عن وجعهم لتخلّي الدولة عنهم ومسؤوليّاتها تجاههم. فهم بكبارهم وصغارهم يعيشون وطأة الحرب المفروضة عليهم والمرفوضة منهم إذ يعتبرون أن لا شأن للبنان واللبنانيّين بها. ويكتبون إلينا: نعيش ضغوط الحرب النفسيّة وتَسحق أعصابَنا أهوالُ الغارات اليوميّة وأصوات القذائف المدويّة. وأطفالنا محرومون من وسائل الترفيه ولا يتلقون تعليماً مَدْرَسياً منتظماً إلا عن بُعْد بسبب الإقفال القسري لمدارسنا الذي فرضتْه الحرب الحالّية. ويتابعون: بإمكانكم أن تتصّوروا مدى الفشل والفوضى والإخفاق والقلق الذي يترتّب على هذا الواقع المرير، وتداعياته على المستقبل التعليميّ والنفسيّ لأولادنا… ويضيفون: اسمحوا لي أن أقولها بالفم الملآن – ليس تخليّاً عن القضايا الوطنيّة ولا العربية، بل انطلاقاً من صدقي مع ذاتي – أرفض أن أكون وأفراد أسرتي رهائن ودروعاً بشريّة (…)».
وتابع «إنّنا نسمعهم وقلبنا ينزف دماً. ونعمل كلّ ما بوسعنا لمساعدتهم بشتى الوسائل بالتعاون مع ذوي الإرادات الحسنة».
وجاء الصوتُ الأعلى للبطريرك الماروني منذ بداية «عمليات المشاغَلة» التي يقوم بها «حزب الله» عبر جبهةِ الجنوب منذ 8 تشرين الاول، فيما تتعاظم المخاوفُ من المرحلة الفاصلة عن تبيان «الخيط الأبيض من الأسود» في المحاولة المتجدّدة، ومحورها باريس، لبلوغ صفقةٍ حول وقف القتال في غزة لمدة شهرين مقابل إطلاق الأسرى الإسرائيليين، وللتوفيق بين إصرار «حماس» على وقْف الأعمال العدائية وانسحابِ القوات الإسرائيلية من القطاع، وبين اعتبار تل أبيب أن «وقف الحرب خط أحمر».
وبرزت خشيةٌ مزدوجة في هذا الإطار:
– من أن تستغلّ إسرائيل تكثيفَ الجهود الإقليمية – الدولية لوقفٍ موقت للقتال يمهّد لوقفٍ دائمٍ لإطلاق النار ويفسح أمام انضاج «أفق سياسي» لـ «اليوم التالي» للحرب في غزة، لربْط لبنان بها و«بالنار» فتُكَرِّس بذلك «وحدةَ الحلّ» السياسي بين هذين المساريْن مستفيدةً من «فرصة» مبادرة «حزب الله» إلى إرساء الترابُط الحربيّ بينهما.
– أو من أن يُفْضي فشل المحاولة المتجددة لبدء وضْع حرب غزة على سكة الاحتواء السياسي إلى تعزيز منطق الداعين في إسرائيل إلى معالجة «جِراحية» للجبهة الجنوبية بعيداً من «الحرب المنضبطة» حتى الساعة والمحكومة بعملياتِ «تعديلٍ» شبه يومية أو توسيعٍ لقواعد الاشتباك وفق منطق التماثل بين الضربات، ومقتضيات توازُن الردع الذي ترتقي عناصرُه وفق ضرورات الميدان المباشَر، كما احتمالات اتساع رقعة المواجهات وانزلاقها إلى الصِدام الكبير بـ «كبسة زرّ» من تل أبيب أو بضربةٍ تحمل فائضاً غير محسوب من الخسائر البشرية، العسكرية أو المدنية.
ومن هنا كان الاهتمام في الساعات الماضية بما تعمَّد «حزب الله» كشْفه عن استخدامه للمرة الأولى في هجماته على مواقع وثكن وتجمعات للجيش الإسرائيلي، إضافة إلى «بركان»، صاروخ «فلق 1»، وصاروخ «الماس»، وسط مراوحة القراءات لهذا التطور بين أنه في سياق معاودة تظهير «تَوازُن ردع» نوعيّ ربْطاً بالتهديدات الإسرائيلية بحربٍ على الحزب ولبنان، وبين أنه محاولة لوقف إمعان تل أبيب في الاغتيالات المتسلسلة لكوادر وعناصر منه في «مطارداتٍ» داخل البيوت.
وإذ لم تُسْقِط بعض القراءات أن يكون إظهارُ «حزب الله» قدرات صاروخية جديدة في إطار الاستشعار بأن تل أبيب مكبّلة اليدين ولست في وارد الاندفاع أكثر على الجبهة اللبنانية وأن أفق التهدئة في غزة لم يعد بعيداً ما يجعل الحزب في هذا «التصعيد الصاروخي» يسجّل نقاطاً إعلامية ومعنوية تعزّز معادلة «قوة لبنان في مقاومته التي ردعت العدو»، رأت بعض الدوائر أن خطوة الحزب قد تشكّل عنصراً حاسماً في «مضبطة الاتهام» الإسرائيلية التي يمكن أن تستخدمها لتبرير أي حرب عليه في حال اتخذت القرار بأن لا مفرّ من إلحاق جبهة الجنوب وإحراقها بنار غزة.
وفي حين كان إعلام «حزب الله» ينشر أمس فيديو عن «إحدى مفاجآت الميدان» التي شكّلها صاروخ ATGM أيanti- tank guided missile في ما بدا إشارة غير مباشرة إلى صاروخ «الماس» الذي ذكر خبراء أنه نسخة معدلة هندسياً من نظام صواريخ سبايك الموجّهة الإسرائيلية المضادة للدبابات ATGM، ذكرت تقارير أن هذا الصاروخ يتعقّب الهدف بكاميرا تصوير مثبّتة فيه تبحث عن الهدف الذي يحلّق الصاروخ في اتجاهه ويتخطى ما يحجبه وينقضّ عليه، وانه يتم التحكم به عن بُعد وأن الرامي يملك السيطرة عليه من انطلاقه حتى إصابته الهدف بحيث يمكنه أن يختار الجهة التي يَعتبر أنها «الخاصرة الرخوة» التي تتيح إلحاق «الضرر المميت».
وإذ كان المشترك بين «الماس» وصاروخ «فلق 1» (ذُكر انه من عيار 240 مللمتراً، ويصل مداه إلى 10.5 كيلومتر، ويحمل رؤوساً حربية شديدة التفجير من دون شظايا) أنه يمكن إطلاقهما من مسافة أعمق من التي اقترحت تل أبيب عبر واشنطن على لبنان جعل حزب الله ينسحب إلى ورائها جنوب الليطاني (بين 7 و 8 كيلومترات) بحيث تكون منطقة آمنة تُطَمْئن مستوطني الشمال للعودة إلى منازلهم، كان بارزاً أمس كلام وسائل إعلام إسرائيليّة عن «أن حزب الله استخدم منظومات صاروخيّة دقيقة في مهاجمة هدف عسكريّ داخل كريات شمونة»، وذلك على وقع عمليات مكثفة من الحزب ضد مواقع وتجمعات وثكن إسرائيلية، وغارات معادية استهدفت إحداها تعاونية لبيع المواد الغذائية تقع عند مثلث بلدتي طيرحرفا الجبين ما أدى الى وقوع اضرار جسيمة في المبنى وتلف كمية كبيرة من محتويات التعاونية فضلاً عن تضرر المباني المجاورة.
في موازاة ذلك، كان «حزب الله» يرفع منسوب إصراره على عدم التراجع أمام الضغوط الدولية لحضه على قفل جبهة الجنوب وفصْلها عن غزة، وهو ما أكدته تقارير صحافية في بيروت كشفت أن نائب مدير الاستخبارات الخارجية الألمانية أولي ديال كان زار لبنان قبل نحو أسبوعين والتقى نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الذي أبلغ اليه أن «أي نقاش سياسي له علاقة بجبهة الجنوب مؤجَّل إلى ما بعد الحرب في غزة»، قبل أن يتوعّد رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد «العدوّ بأن إياك أن تخطئ الحساب وأن تحوّل جنونك من مكانٍ إلى مكانٍ باتجاه لبنان لأن ما ينتظرك فيه هو المقابر».