كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
يدفع «المتقاضون» أمام المحاكم اللبنانية، ثمن أطماع السلطة السياسيّة وسعيها الدؤوب إلى التحكّم بعملها، حتى أضحى العمل على إشغال المراكز الأساسيّة الآيلة إلى الشغور، أكان بالتكليف أو بالإنابة، مادة استثمار في سجلّ إنجازاتهم التعطيليّة. وذلك، بعد أن أمعنت مآرب القوى السياسيّة، في حرمان الجسم القضائي من اتّخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان إقرار التشكيلات القضائيّة العامة والجزئيّة قُبيل الإبحار في زمن الشغور الرئاسي والمؤسّساتي.
ووسط تسليم الجميع، بأنّ انتظام العمل المؤسساتي صعب، قبل الشروع في انتخاب رئيس جمهورية وإعادة تكوين السلطة التنفيذية؛ إلّا أنّ تبعات المقاربات التي تتعمّد «سلطة الوصاية» فرضها على انتظام عمل السلطة القضائية آيلة إلى التوسّع، جرّاء إفراغ غالبيّة المراكز الأساسيّة في العدلية من قضاة أصيلين. ورغم ملء غالبية المواقع القضائية بالإنابة أو التكليف، إلّا أنه يتعذّر عليهم القيام بكل الأدوار المنوطة بأسلافهم.
ويتجلّى هذا الأمر في الهيئة العامة لمحكمة التمييز، الملقى على عاتقها بتّ طلبات مخاصمة الدولة، ومنها ما خصّ عمل المحقّق العدلي في قضية 4 آب القاضي طارق البيطار. ووفق مصادر قضائيّة، فإن مجلس القضاء الأعلى المولج «السهر على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم، واتخاذ القرارات اللازمة في هذا الشأن»، تعذّر عليه إقناع رؤساء غرف محاكم التمييز (بالتوازي مع عرقلة التعيينات الجزئيّة) بالاجتماع وبتّ الدعاوى المرفوعة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وذلك مع «رفض رؤساء الغرف الأصيلين الجلوس مع رؤساء الغرف المنتدبين أو التعاون معهم، بالتوازي مع تحجّج القضاة المنتدبين بأن عملهم يقتصر على تسيير عمل المحكمة التي انتدبوا لرئاستها ولا يشمل الحلول مكان القضاة الأصيلين والقيام بالدور الملقى على عاتقهم في الهيئة العامة لمحكمة التمييز».
ولا تقتصر تداعيات إفراغ السلطة القضائيّة على هذا الحدّ، بل صار انعقاد المجلس العدلي على «المحكّ». فالمجلس المؤلف من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيساً، وأربعة قضاة من محكمة التمييز يعيّنون بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء، ويتضمّن أيضاً قاضياً إضافياً أو أكثر ليحلّ محل الأصيل في حال وفاته أو تنحيته أو ردّه أو انتهاء خدمته، أُحيل 3 من أعضائه الأصيلين إلى التقاعد. ليتألف المجلس راهناً من عضوين أصيلين هما، الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي سهيل عبود رئيساً، والقاضي جمال الحجار، وثلاثة من القضاة الذين لحظهم المرسوم (إحتياطاً)، وهم عفيف الحكيم، مايا ماجد، وجان مارك عويس. ويصبح تغيّب أيّ منهم، كفيلاً بتعطيل التئام هيئة المحكمة على غرار ما حصل خلال الأسابيع الماضية إثر تعرّض أحد القضاة لـ»وعكة صحيّة».
وفي السياق، يكشف مصدر قضائي لـ»نداء الوطن» أنّ التئام مجلس القضاء الأعلى سيصبح بدوره على «المحكّ» أيضاً مع إحالة النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات إلى التقاعد بعد أسابيع. ويشغر بذلك المقعد الثاني بين «الأعضاء الحكميين» في المجلس بعد إحالة رئيس هيئة التفتيش القضائي القاضي بركان سعد إلى التقاعد عام 2022. ويوضح أنّ المجلس المؤلّف من 10 قضاة، بقي من أعضائه الحكميين الثلاثة، رئيسه، أي الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي سهيل عبود. في حين يتطلّب انعقاده حضور 6 من أعضاء المجلس على الأقل، وهو العدد المتبقّي من أعضاء المجلس العشرة، بعد أن تعذّر استكمال انتخاب العضو الثاني من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز، وتعيين الأعضاء الآخرين بسبب عدم وجود رؤساء غرف أصيلين في ثماني غرف في محكمة التمييز، يتم إشغالها راهناً بقضاة منتدبين.
ويحول انعقاد مجلس القضاء الأعلى بحضور 6 أعضاء فقط، دون قدرته على اتّخاذ قرارات في العديد من المسائل الأساسيّة، والتي يتطلّب اتّخاذها بأكثرية سبعة أعضاء لتكون نهائية وملزمة، على غرار تلك المرتبطة باختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى. أمّا ما خلا الحالات المنصوص على غالبية خاصة بشأنها، فتتّخذ قرارات المجلس بغالبيّة أصوات الحاضرين، ليكون صوت رئيس الجلسة مرجحاً عند التساوي.
ولدى البحث عن مآل عمل المحاكم في لبنان، لا يتردّد مصدر قضائي في القول: «كيف بدها تمشي العدليّة في ظلّ تعمّد عرقلة التشكيلات القضائيّة العامة والجزئيّة؟». ويضيف «رغم إصرار مجلس القضاء الأعلى على التشكيلات المبنية على معايير موضوعية، عمد البعض لا تعمّد الإبقاء على الشغور في المراكز الأساسيّة والتي يتمّ ملؤها بالانتداب أو الوكالة أو التكليف».
إنتداب القضاة
وفي سياق متصل، وبعد أخذ وردّ بين وزير العدل الذي ارتأى انتداب القضاة إلى المحاكم الأقرب إلى مكان إقامتهم، ومجلس القضاء الأعلى المتمسك باعتماد المعايير المرتبطة بأحقيّة القضاة المتفوّقين وفق نتائجهم الصادرة عن معهد الدروس القضائية، علمت «نداء الوطن» أنّ الطرفين توصّلا إلى حل جزئي لانتداب القضاة الجدد، ويقارب عددهم 70، إلى العدلية. ويقوم عبر آلية تأخذ في الاعتبار القضاة العشرة الأوائل من كل دورة، المتفوقين وفق النتائج الصادرة عن معهد الدروس القضائية، ووضعهم في المراكز التي تتطلّب قضاة منفردين، قبل أن يتم انتداب الآخرين إلى المحاكم القريبة من أماكن سكنهم.