كتب مايز عبيد في “نداء الوطن”:
جرّب اللبنانيون نزوح العام 2006 عندما انتقلت عائلات جنوبية وأخرى من الضاحية الجنوبية إلى بيروت للعيش في مناطق شمالية، ومنها قرى وبلدات عكار. ثم خبروا بعدها النزوح السوري إلى لبنان بعد حرب العام 2011 والأحداث في سوريا.
وجه الشبه بين نزوحي 2006 و2011 أنهما من منطقة إلى أخرى أو من بلد إلى آخر، أما النزوح داخل البلد نفسه والقرية نفسها، أي النزوح من بيت إلى آخر فهو ما لم يختبره لبنانيون من عكار من القرى الحدودية المجاورة للنهر الكبير إلا بالأمس القريب. في السياق فقد انتقلت عائلات من بيوتها مرغمة للعيش في بيوت جيرانها أو أقاربها وأصحابها، سواء في نفس القرية أو في قرى أخرى مجاورة. هو نزوحٌ جديد عاشته قرى في سهل عكار، فالقرى والبلدات المجاورة للنهر الكبير، ونتحدّث هنا بشكل أساسي عن السماقية وحكر الضاهري والعريضة وتلبيرة وغيرها، تستقبل عدداً كبيراً من النازحين السوريين في ربوعها منذ العام 2011، حتى أن أعداد السوريين تفوق أعداد اللبنانيين فيها.
ما حصل هذه المرة هو أنّ اللبنانيين عاشوا معاناة النزوح في قراهم، أجبرتهم على ذلك العواصف التي تضرب لبنان وقد أدّت آخرها إلى فيضان النهر الكبير وارتفاع منسوبه بشكل غير مسبوق، والتقاء مياهه مع مياه نهر الأسطوان، فغمرت المياه عدداً كبيراً من منازل القرى الثلاث بشكل كبير، وتعطّل العديد من الأدوات الكهربائية والإلكترونية في المنازل. إلا أنّ الأصعب من ذلك كله هو أن تجد العائلات أنها غير قادرة على السكن في منازلها، وقد احتلتها المياه وعاثت خراباً بمحتوياتها.
تروي عائلات من قرى السماقية وحكر الضاهري والعريضة ما حدث معها من هول العاصفة التي ضربت عكار قبل نحو أسبوعين، وأكثر ما اشتدّت وطأتها في مناطقهم، واضطرارها بصغارها وشيبها وشبابها، إلى النزوح من منازلها. تقول أم حسين من حكر الضاهري لـ»نداء الوطن»: «منزلنا لا يبعد عن النهر الكبير أكثر من 50 متراً، وبيننا وبين النهر الطريق، ولما حلّت العاصفة واشتدّت ما هي إلا ساعات حتى وجدنا أنفسنا محاصرين بالمياه التي دخلت بيوتنا وارتفعت حتى غمرت جهاز التلفزيون وهو يرتفع عن أرض البيت أكثر من متر ونصف، وعندها طلبت من زوجي الإسراع بنقلنا إلى بيت أختي في قرية الشيخ زناد ومكثنا هناك 3 أيام قبل عودتنا إلى بيتنا الذي تضرّر من جرّاء المياه بشكل واسع».
أما أبو علي من السماقية وعائلته فقد نزحوا من نفس البناية بعدما سبح بيته في الطابق الأرضي بالمياه بكل مقتنياته إلى الطابق الأعلى حيث بيت أخيه لتجتمع العائلتان في بيت واحد كاد يضيق بالعائلة الواحدة. ليالٍ مرعبة لا ينساها أهالي قرى جوار النهر الكبير، ولا زالوا تحت تأثير معاناتها، في ظل تخوّفهم من أن تتكرّر هذه المشاهد في الأيام المقبلة وفي أي وقت طالما لم تعالج بعد أسباب ما حصل.
مختار السماقية عبدالله درويش، عاصر أكثر من فيضان للنهر الكبير على سنيّ عمره، يقول لـ»نداء الوطن»: «هذه معاناة قرى جوار النهر الكبير مع طوفان النهر من عشرات السنين، ولكن للمرة الأولى منذ أكثر من خمسين سنة تأتي بالشكل هذا من القوة والضغط الهائل، إذ كنا أشبه بالمحاصرين في منازلنا، ولولا تطوّع الصليب الأحمر والجيش اللبناني والدفاع المدني والبلدية وشباب ومنظمات لكانت المعاناة أكبر من ذلك بكثير». ويضيف: «الدولة غير موجودة هنا في مناطقنا ولا تسأل عما يحصل معنا. هذه المرّة، أصبحنا كلبنانيين، نازحين في قرانا وأرضنا، فمن بات بيته غير قابل للسكن اضطرّ للسكن عند جاره أو قريبه أو ابن قريته أو قرية أخرى، ممن لم يتضرر منزله، لا سيما وأنّ العاصفة عزلت قرانا لعدّة أيام عن محيطها، وبعد ثلاثة أيام من المطر والفيضان لم يعد لدى الناس ما تأكله، فبتنا نتقاسم ربطة الخبز والحاجيات المنزلية بين بعضنا البعض فيما الحكومة اللبنانية بوزاراتها كانت غائبة عن هذا المشهد بالكامل».
إذاً في مشهد العزل الفيضاني تساوى اللبناني مع النازح السوري بكل شيء، إلا أنه وبحساب الربح والخسارة، تبقى خسارة اللبناني أكبر كونه قد خسر مواسمه وتضرر منزله ومقتنياته، أما النازح السوري فكلها أيام فتجفّ أرض الخيمة ويعود ليأوي إليها وكأن شيئاً لم يكن.
مشاكل النهر الكبير الجنوبي لم تعد فقط في الساتر الترابي، وقد زادت بعد الفيضان الأخير مع ظهور فجوة كبيرة في الأرض، ونمو عشبة رجل البطة بشكل رهيب في النهر ما يهدّد بسدّ المجرى بالكامل، وكلها عوامل فقد تؤدي إلى نزوح جماعي قسري لمئات العائلات من تلك المنطقة.