كتبت زيزي اسطفان في “الراي” الكويتية:
بين هدير «طبول الحرب» التي تُقرع على شكل تهديدات تصاعُدية من إسرائيل، ودويّ المواجهات المفتوحة منذ 8 تشرين الاول وأخذتْ ترتقي كماً ونوعاً ومساحةً في الأيام الأخيرة من خلف ظهْر ما اصطُلح على تسميته «قواعد اشتباك» حالت حتى الساعة دون انزلاق «جبهة المشاغَلة» إلى صِدام كبير، تبدو الحدود اللبنانية – الإسرائيلية مشرّعة على شتى الاحتمالاتِ بما فيها «الدوس» بقرار كبير أو خطأ كبير على «لغم التفجير» الواسع.
ورغم تهيُّب طرفيْ المواجهة، أي «حزب الله» وإسرائيل، الحرب الشاملة، فإنّ تل أبيب لم تنفكّ على وقع محاولة شقّ طريقٍ لوقف القتال في غزة عن إعطاء إشاراتٍ إلى أنها تتهيّأ لـ «نقل البندقية» إلى جبهتها الشمالية، وكان آخِر كلام في هذا الإطار لوزير الدفاع يوآف غالانت، الذي قال خلال تقييم للجبهة الداخلية في منطقة حيفا الكبرى، «ستأتي المرحلة التي ينفد فيها صبرنا، نؤثر القيام بعمل قوي لفرض السلام على الحدود الشمالية. وعلينا أن نأخذ في الاعتبار احتمال حدوث تصعيد واسع. إن احتمال التوصل إلى اتفاق محتمل مع حزب الله بدأ ينفد. وإذا تدهور الوضع أكثر، فإن الحالة في حيفا لن تكون جيدة، ولكن في بيروت، سيكون الوضع مدمّراً (…)».
فهل «تفلت» جبهة الجنوب من السيناريو الأسوأ، أم تتفلّت في لحظة «مجنونة»، «فتفاجئ» الجميع؟
العمداء المتقاعدون ناجي ملاعب، جورج الصغير، أنطوان جرجس أبوسمرا، وخالد حمادة، الذين يتابعون الأحداث على جبهة لبنان الجنوبية يحللون عبر «الراي» إمكان توسع الحرب ويقدّمون بأقلامهم محاكاةً للحاضر والغد.
ناجي ملاعب:
إسرائيل غير جاهزة للحرب و«حزب الله» لا يريدها
ترغب إسرائيل في إنهاء التهديد على جبهتها الشمالية لكن يبدو أنها غير جاهزة حالياً مع تَوَرُّطها الذي لم ينتهِ في غزة بعد.
و«حزب الله» أو لنقُل«محور المقاومة»، مازال يتعامل مع جبهة الجنوب كجبهة مُسانَدة، فهو لا يريد هذه الحرب حفاظاً على خصوصيته اللبنانية ولا سيما بعدما وقفت معه الحكومة اللبنانية برفْضها إجراء أي مباحثاتٍ حول وضع المنطقة الجنوبية قبل انتهاء حرب غزة، وتالياً فإن الحزب لا يريد الحربَ لكنه يستعدّ لها ولديه الجهوزية لخوضها.
إسرائيلياً هناك إرباك على المستوييْن العسكري والسياسي.
عسكرياً استخدمت إسرائيل قوى النخبة في غزة وفشلت في تحقيق أهدافها وخرجت من غزة وبالذات اللواء غولاني بعد خسارته لجزء كبير من عتاده وعناصره في كمائن شجاعة. ولا تستطيع الادعاء بأنها أنهت أمنياً أي منطقة سواء في الشمال أو الوسط، وتالياً فهي تستخدم قوى احتياط، وثمة مشكلة تَسَرُّب حقيقية ضمن هذه القوى ومشكلة في التعاطي مع تقنيات عسكرية حديثة لم يتدرّب عليها جنود الاحتياط بعدما كانوا تحولوا إلى الحياة المدنية.
وعلى المستوى السياسي هناك تصريحات متناقضة بين مَن يرغب بهدنةٍ ومَن يرغب بالخضوع لطلبات أهالي المحتجزين ومَن يرغب باستمرار العمل العسكري.
«حزب الله» يتصرف بطريقة ذكية عسكرياً، أي أنه لم يستخدم حتى اليوم سوى بعض العناصر من الأسلحة إلى جانب المسيَّرات، أوّلها صاروخ الكورنيت وهو صاروخ روسي مضاد للآليات لكنه يُستخدم بفاعلية ضد الأمكنة السكنية والتجمعات كونه يُطلق أفقياً ولا تستطيع القبة الحديد رصده أو التعامل معه. والعنصر الثاني هو صاروخ بركان وهو إنتاج محلي وقيمته أنه يحمل 300 كيلوغرام من المتفجرات ومداه قريب بحيث لا تستطيع القبة الحديد رصده وتفجيره في الجو (قبل إعلانه استخدام صاروخ «فلق 1» والتقارير عن زجّه بصاروخ «الماس»). لكن هناك الكثير من أسلحة لدى الحزب وصواريخ لم تُستخدم بعد، ولديه بنك أهداف كبير جداً في الداخل الإسرائيلي، من مرافئ ومنصات استخراج الغاز ومدارج طيران ومصانع أسلحة، يمكنه استهدافها عبر الصواريخ أو عبر قوة «الرضوان» المجهزة للقتال داخل أراضي العدو.
لا شك أن إسرائيل تملك قدرة تدميرية كبرى وتقنيات عالية المستوى في حال شنّتْ حرباً، لكنها ليست مستعدة لتحمل تداعيات اليوم التالي الصعبة جداً نتيجة ما يمكن أن يطلقه «حزب الله» من صواريخ وهو أضعاف أضعاف ما تنتظره تل أبيب. ولا تستطيع القبة الحديد التعامل مع هذا النوع من الصواريخ التي يمكن أن تصيب أهدافها بدقة. لا بل إن «حزب الله» يمكنه إذا قصفت إسرائيل المدنيين في الداخل اللبناني أن يصوّب على أهداف مدنية في الداخل الإسرائيلي. من هنا فإن الأمور ليست مرشحة للتوسع لكن تبقى الكلمة الفصل للميدان كما قال الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير.
أنطوان أبوسمرا:
وحدها «عليّ وعلى أعدائي» تفجّر الحرب
لا تخاض الحرب من أجل الحرب، فالحروب وسيلة لتحقيق أفكار وأهداف سياسية، والسياسة وحدها هي التي تجرّ نحو الحرب. إذا بقيتْ الأوضاع على الجبهة الجنوبية ضمن إطار اللعبة المتفَق على تسميتها«قواعد الاشتباك»، فإن الأمور ستبقى على حالها. أما إذا قرر أحد الفريقين أن يقول«عليّ وعلى أعدائي»، فحينها لا أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور. ثمة حساباتٌ سياسية تلعب دورها في هذا الموضوع، فإذا بقيت الاشتباكات ضمن المصالح التي رسمها كل فريق لنفسه تبقى اللعبة محصورة ومضبوطة. أما إذا وَجَدَ أي من الفرقاء أن مصالحه السياسية مهدَّدة وثمة خطر عليها، فمن الممكن أن تنزلق الأمور إلى الحرب مهما تكن أثمانها وأن تتطور الأوضاع على الجبهة الجنوبية نحو المجهول.
«حزب الله» اليوم لا يريد أن ينجرّ نحو الحرب لأن مصالحه تقتضي بألا ينخرط في حربٍ شاملة، شركاؤه في الوطن لا يؤيدونه فيها. نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل هو الفريق الوحيد في الشرق الأوسط الذي له مصلحة في الحرب لأنه سيخضع للمساءلة بعد وقف المدافع في غزة، ما يعني أن مصالحه الشخصية ومصالح حزبه مهدَّدة، ولذا فإن الحرب في اتجاه لبنان ستكون نوعاً من الهروب إلى الأمام بالنسبة إليه.
وفي الواقع هذا ما تعيشه غزة اليوم حيث إن إسرائيل هي في حال هروب نحو الأمام بعد الصدمة التي أصابتْها، وتسعى من خلال التدمير الهائل الذي تقوم به إلى عملية تمويه للخسارة التي مُنيت بها.
وبالنسبة لجبهة الجنوب اللبناني ولطرفيْها أي إسرائيل و«حزب الله» فإن لا رابح ولا خاسر بينهما، فكل طرف يسعى لتظهير الإيجابيات وإخفاء السلبيات، وكلاهما بارع في إخفاء خسائره وتمويهها، لكن في الحقيقة كلاهما عالقان في مكان معين إلا إذا حُشر أحدهما في السياسة وبات مدفوعاً لخوض حرب.
جورج الصغير:
كلما توسعت الحرب كانت مكسباً سياسياً لنتنياهو
في سؤالي لأحد مسؤولي «حزب الله» حول قضية داخلية مرشّحة للاشتعال، جاءني الردّ بأن لا حرب أهلية في لبنان لكن هناك حرباً كبرى في المنطقة. إلا أنني أرى أن الأمور لن تصل إلى حرب كبرى لأن لبنان حينها سيدفع ثمناً كبيراً ودماراً هائلاً وستكون نهاية «حزب الله».
الإسرائيلي لم يعد بحاجة إلى الحزب بعدما كان يحتاج إليه ليصنع لنفسه عدواً عند الحدود بعدما غادَرَ الفلسطيني أرض الجنوب. وجود «حزب الله» في الجنوب كان نتيجة اتفاق أميركي – إسرائيلي – إيراني لإيجاد عدوّ غبّ الطلب ولإقناع الناس أن إسرائيل مهددة على الدوام ولو على حساب ضحايا يسقطون من الطرفين.
والدليل على ذلك أن الحلف اليهودي – الفارسي هو حلف قديم يعود إلى 500 عام قبل الميلاد أيام قوروش الذي حرّر اليهود من السبي وأعادهم إلى أورشليم. وحتى اليوم مازالت أفضل العلاقات التجارية تقوم بين الإيرانيين واليهود.
الانسحاب الإسرائيلي من لبنان العام 2000 باتفاق أميركي – إيراني أنهى حزب العمل وإيهود باراك بعدما تم تزويد«حزب الله»بصواريخ TOW الروسية التي ساعدتْه على قصف الدبابات الإسرائيلية وإلحاق الضربات بالجيش الإسرائيلي، واليوم ما يقوم به أبطال غزة سيُنْهي«حزب الليكود». إذا انتهت الحرب في غزة فمعنى ذلك أن نتنياهو ذاهب إلى السجن، ولذلك يهمّه إطالة أمد الحرب خصوصاً بعدما باتت «حماس» وحدها، في حين أن جماعة الممانعة وعلى رأسها إيران تحاول ركوب موجة انتصار غزة، وهو يحاول كذلك جرّ «حزب الله» إلى حرب شاملة لا يريدها لإطالة الأزمة والبقاء في سُدة الحكم.
ما يحدث اليوم مازال ضمن مسرحية «قواعد الاشتباك» وهو لا علاقة له بالحرب إذ إن الحروب تُخاض ليكون فيها رابح أو خاسر. أميركا تضغط على إسرائيل حتى لا تشن حرباً على لبنان كما تقنع نتنياهو بأن إيران ستهتمّ بـ«حزب الله». وفي إسرائيل ثمة انقسام حكومي بين مَن يريد حرباً شاملة لا محرمات فيها ومَن يود تجنب هذه الحرب. فإذا استطاع نتنياهو أن يغلب المعتدلين قد يدفع بالأمور نحو الحرب ويدخل لبنان فيها.
«حزب الله» مأزوم، فإيران لا تريد توسيع الحرب وأميركا لا تريد التورط في سنة الانتخابات. ونتنياهو لن يكرّر خطأ 2006 حين استطاع الحزب استدراج الإسرائيلي إلى ملعبه واستغل تضاريس الأرض لمصلحته. اليوم الإسرائيلي سيشنّ حربا مدفعية وطيران وتدميرا لأنه يملك كل الوسائل لذلك، وستشمل أي حربٍ كل لبنان في سعي للقضاء على «حزب الله» حتى ولو أطلق الأخير مئة ألف صاروخ على إسرائيل. في اختصار ستكون حرباً مجهولة النتائج على لبنان وإسرائيل ولكن نسبة حدوثها موجودة فقط في رأس نتنياهو فكلما طالت الحرب وتوسّعت كانت مكسباً له على الصعيد السياسي.
خالد حمادة:
بعد غزة الحرب مرشّحة للانتقال إلى جنوب لبنان
الحرب في جنوب لبنان حالياً لا يمكن تحميلها العنوان الذي أعطاها إياه السيد حسن نصرالله، بل هي تسجيلٌ للحضور الإيراني في المَشهد الإقليمي. فهي لا يمكن أن تكون حرب مُسانَدة في الوقت الذي تتنصل إيران من المشاركة فيها، بل لا تريد لها التوسع.
تعبير الانزلاق نحو حربٍ أوسع خاطئ كلياً، إذ إن الحرب قد تتوسع بقرارٍ يُتخذ عن سابق تصوّر وتصميم في طهران لجهة«حزب الله»أو في واشنطن في الجهة الإسرائيلية. فالحرب المتوقَّعة ليست على قياس قرارات الحزب أو نتنياهو.
في الوقت الحالي لن تتوسع الحرب في جنوب لبنان ما دامت الحرب في غزة قائمة إذ لن تكون هناك جبهتان مفتوحتان في الوقت نفسه. نحن في انتظار الستاتيكو الجديد في غزة، ولكن مهما تكن شروطه ستنتقل بعده الحرب إلى لبنان. وإذا كانت حرب غزة ستتوقف ويكون أحد عناوينها الرئيسية أمن الحدود بين إسرائيل وغزة بصرف النظر عن وجود«حماس»أو غيرها، فثمة معادلة أمنية ستطبق على الحدود مع لبنان. وإذا كان القرار 1701 غير جاهز للتطبيق في ظل المعادلة الحالية لأن إيران تسعى لمكتسبات معينة، فإن الحرب مرشحة للانتقال إلى لبنان لتثبيت وضع جديد لا يمكن إنتاجه سلمياً إنما فقط بعملية عسكرية. واشنطن لن تتفاوض مع«حزب الله»، فإذا تفاوضت مع طهران سيكون ذلك على حساب ترتيبات أخرى تختلف عن الوضع السائد في الجنوب اللبناني منذ القرار 1701.
ما يحدث في الجنوب اليوم ليس قتالاً بل يمكن تسميته بتعهّد بالقتال، هي حرب تقول للعالم إن إيران موجودة في جنوب لبنان وتطلق النار على إسرائيل، بينما الإسرائيلي من الجهة المقابلة يقول نحن موجودون هنا للردّ على أي تهديد إيراني. ولكن ليس من مصلحة الإسرائيلي اليوم فتْح معركة في الوقت الذي يتعرّض يومياً في غزة لما يتعرض له. أما بعد غزة فالموضوع مختلف، ونظراً لِما يُسمع اليوم عن وساطات، يمكن بين ليلة وضحاها أن تحدث تسوية ما في غزة وحينها سينتقل الجهد إلى لبنان. وللأسف لا يمكن الحديث عن تسوية من دون حرب، إذ لا أحد يمكن أن يتنازل عن حقه حتى ولو كان مقتنعاً بالتنازل من دون عملية عسكرية. فـ«حزب الله» لن يخرج في الغد ليقول إننا جاهزون لتطبيق القرار 1701 ولحلّ أنفسنا. هذا الكلام لن يحدث. أما المفاوضات التي تجري حالياً وحركة مبعوث الرئيس الأميركي الخاص لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين فما هي إلا لعب في الوقت الضائع ورسائل يتمّ تمريرها عبر الحكومة اللبنانية الصُوَرية. ولكن في النهاية هناك حرب آتية على لبنان وللأسف لن تكون محدودة.
في الوقت الحاضر لا يمكن تثبيت أي معادلة، والإيراني معروف بأنه يلعب على حافة الهاوية وهو لن يقدّم تنازلاً إلا إذا كان يحسب حساب الخسارة والربح، وسيحاول أن يترجم هذا التنازل بمكتسبات سياسية.