كتب أنطونيوس أبو كسم في “نداء الوطن”:
الموارنة ليسوا امتداداً دينياً، بل تجسيداً مشرقاً للمسيحية عبر عيش فضائل التقشُّف والزهد والتقوى ومواجهة الاضطهاد والاستشهاد. إنّ فضائل الموارنة وإيمانهم في الأرض وتشبّثهم بها أدّت إلى بروز دورهم الاجتماعي السياسي. ويشهد التاريخ القديم والحديث، أنّ الموارنة لا يبحثون عن صلاحيات بل يبحثون عن دولة وعن مجتمع عادلٍ بعيدٍ عن كافّة أشكال الاحتلال.
لم تتمّ محاربة الموارنة كهويّة دينيّة بل كجماعة سياسيّة غير إسلامية بالرغم من عددها القليل في المشرق العربي. إنّهم نواة لمشروع استقلال دولة علمانيّة وسط عالم عربي ذي هويّة إسلاميّة. إنّ البطريركية المارونيّة هي أوّل من نادى بتطبيق الدولة المدنيّة، وكرّسته في توصيات مجمعها البطريركي سنة 2006.
طوّر الموارنة الهويّة العربية لتصبح هويّة تعدّدية وهويّة النهضة، هويّة تشمل غير المسلمين، فكانوا السبّاقين، وها هي اليوم أبرز دول الخليج العربي الشقيقة تعتنق الهويّة العربية للتفاعل مع العالم الغربي لاستقطابه.
نجح الموارنة بالتحوّل من جماعة ذات هويّة دينيّة إلى طائفة ذات هويّة سياسية، إلّا أنّ الموارنة فشلوا باللّحاق بعقيدة سياسية واحدة بسبب الحريّة وإيمانهم بها كأساس وجودهم. حمى الموارنة الميثاق الوطني، وفضّلت بكركي المحافظة على الميثاق الوطني بدلاً من استمرار الحرب، فحاربوا التوطين والتقسيم. لم يُعطَ الموارنة قيادة الجيش كأداة سلطة، بل كمهمّة للحفاظ بتجرّد على وحدة لبنان عبر القوى الشرعية.
آمنت البطريركية المارونية باتفاق الطائف كطريق للاستقلال والسيادة وكمشروع دولة مدنيّة وأمّنت له الغطاء السياسي. للأسف تمّ الغدر بالموارنة، وتمّ بتر اتفاق الطائف، فتحوّل التطبيق المغلوط للطائف، أداةً للوصاية بدل الاستقلال والسيادة، ومحاصصة طائفية بدلاً من دولة مدنيّة، ودولة بوليسية بدلاً من نظام ديمقراطي. لن يشهد لبنان فجر تطبيق الطائف من دون دور الموارنة الريادي، كفكرٍ سيادي مؤسساتي إصلاحي ثقافي منفتح محاور للحضارات، وهذا ما يفسّر تواصل الدول العربية الوثيق مع الأحزاب المارونيّة.
بعد محاولات إضعاف الموارنة ديموغرافياً وسياسياً، كان للغرب تجارب عبر تحالفات مع مكونات لبنانية أخرى ذات امتداد ديني، إلّا أنّه بُلِيَ بالفشل ووقع في محظور الصراع السني الشيعي والصراع الشيعي العربي والشيعي الفارسي وفي محظور مشاريع الدويلات على حساب مشروع الدولة. الموارنة ليسوا مجموعة تشكّل تحدّياً ديموغرافياً في لبنان، بل هم مجتمع متعدّد بذاته يشكّل تنافساً ثقافياً قائماً على قيم الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية والولاء للوطن. على كلّ حال، إن الانتشار الماروني رائد في العالم من دون حدود تحت شعار لبنان. فالانتشار الماروني أصبح لوبياً عالمياً يدافع عن قضية لبنان بلد الحوار وملتقى الثقافات.
ترك الموارنة أنظمة الإمارة والقائمقاميتين، والأقضية الخمسة، والحكم الذاتي لجبل لبنان، لتحقيق لبنان الكبير كبلدٍ نهائي للجميع، فضّلوا العيش المشترك بدلاً من الاستقلال الذاتي وتشجيع نماذج الدول العنصرية في المنطقة. دفعوا ثمن قضية لبنان، في حين كان الشركاء في الوطن قد أضاعوا البوصلة ودافعوا عن قضايا إقليمية على حساب لبنان ودفع الجميع الثمن، ولا يزال قسم من الأخوة في الوطن يدفعون الدم ويقدّمون الشهداء لقضيّة ليست لبنانية. التحق الزعماء غير الموارنة بركب سفينة استقلال لبنان وتحريره، فدفعوا الثمن حتى استشهدوا. لكن رغم ذلك، إنّ التنوّع والانفتاح الماروني، سمح حتّى في أشدّ الأزمات من تكوين جبهتين سياسيتين على مستوى الوطن، ترتكز كلّ واحدة منهما على وجود الأحزاب المارونيّة ودورها.
تستغلّ القوى السياسية في لبنان التنافس الماروني القائم على الحريّة، فيُسعرون النار بسهولة للحصول على مكتسبات بسبب التشرذم المسيحي. برهن الموارنة أنّ هذا التشرذم ليس سوى انقسام في الرأي، وأنّ الفراغ في الرئاسة ليس بسبب الخلاف المسيحي – المسيحي، بل بسبب الانقسام على هويّة النظام، وبسبب الخوف من قيام الدولة بعد الانهيار والبدء بحملة الإصلاح والمحاسبة، حيث لا يجرؤ الآخرون. الموارنة هم الحلّ والضمانة وليسوا المشكلة، هم هوية انفتاح وهويّة قيمٍ لدولة سلميّة عادلة مستقلّة آمنة. لا يجب أن يُظلم الموارنة بسبب شخصيات انتحلت صفة المارونية وهي من مبادئها برّاء.
بذكرى القديس مارون لا يسعنا إلّا استذكار رجالات كبار حليفة وصديقة للموارنة، هامات لبنانية استبسلت لإنشاء الدولة مع الموارنة بخضمّ الحرب على الموارنة. نستذكر الإمام المغيّب موسى الصدر، والمفتي حسن خالد، والإمام مهدي شمس الدين، ودولة الرئيس سامي الصلح ودولة الرئيس رياض الصلح، ودولة الرئيس حسين الحسيني، ودولة الرئيس رفيق الحريري، والخصم الشريف كمال جنبلاط، وغيرهم ممن تعاونوا في الظلّ مع الموارنة لبناء لبنان الدولة. المارونية ليست تقوقعاً وروابط ومجالس وجمعيات، المارونية هي هوية ثقافية منفتحة في وجه التعصب.