كتبت يولا هاشم في “المركزية”:
بعد أن أحكمت طهران قبضتها على أربع عواصم عربية بيروت، بغداد، صنعاء، ودمشق، يبدو أن العدّ العكسي الاميركي بدأ لتحجيم دور ايران في المنطقة وحصرها ضمن حدودها الجغرافية. وقرار الرئيس الاميركي جو بايدن بضرب الاذرع الايرانية في سوريا والعراق، بعد ضرب الحوثيين في اليمن وتفكيك حماس عسكريا في غزة، والعمل على تطبيق القرار 1701 في لبنان، خير دليل. فهل بدأت مرحلة انكفاء ايران عن العواصم العربية الأربع؟
المحلل السياسي الدكتور خالد العزي يقول لـ”المركزية”: “منذ 7 تشرين الثاني اختلفت المعادلة في التعامل الاميركي مع الاستراتيجية الايرانية، ولم تعد سياسة واشنطن في الشرق الاوسط احتواء مطالب ايران، التي كانت تبتزها عبر التهديد بضرب مصالحها ومصالح اصدقائها، وانما الضغط عليها لإبعادها عن المواجهة والحرب من خلال التهديد بالقوة او العقوبات، لأن البوارج والناقلات الاميركية التي أتت الى البحر المتوسط لم تأتِ لحماية اسرائيل كما تدّعي الممانعات، بل لتوجيه رسالة بأن منطقة الشرق الاوسط هي منطقة نفوذ اميركا، وبالتالي ممنوع التطاول عليها، ولمنع اسرائيل من جهة من التهور والذهاب في ضرب ايران، وايران من جهة اخرى من ابتزاز اميركا في توجيه صواريخ او مسيرات على اسرائيل كي لا تتسع رقعة الفوضى في المنطقة”.
ويشير العزي الى ان “الصين فهمت الرسالة جيدا ولذلك لم نرَ موقفا صينيا منذ 7 اكتوبر سوى الاحتكام الى القانون الدولي وعدم توسيع التوتر العسكري في المنطقة. روسيا في البداية لم تفهم الرسالة وحاولت ان تستغل هذا الصراع وتقديم نفسها كجزء من معادلة تأمين السلام، لكن لاحقا في ظل هذه الفوضى، فهمت أنها لا تملك اوراقاً، وكان سكوتها واضحا مع ما حدث. لكن الصين وروسيا لم توافقا على ممارسات ايران من استفزازات دولية وتعريض مصادر التجارة والنقل للخطر، لأنها لا تضر باسرائيل او بالولايات المتحدة، بل بالصين وروسيا والدول الاوروبية”.
ويرى ان “ايران حاولت استفزاز واشنطن لكنها كانت تبني استفزازها على قاعدة ان واشنطن منشغلة في حرب ميدانية مكلفة جدا مع روسيا في اوكرانيا، ومنشغلة ايضا مع الصين في البحر الاصفر، في حرب باردة ومكلفة اقتصاديا. لذلك، حاولت ايران في هذه الفترة ان تستفز الولايات المتحدة في ظل فترة تعتبر “ميتة” وهي فترة انتخابات، وعادة ما تكون السياسة الاميركية في هذه المرحلة موجهة نحو الداخل من أجل تعبئة الجمهور الاميركي في اتجاه التصويت له”، لافتاً إلى ان “ايران حاولت استفزاز الولايات المتحدة في العراق وسوريا ولبنان عبر حزب الله، واليمن وافريقيا بضرب المصالح الاميركية، للحصول على مطالب وتجيير هذه الاوراق في المفاوضات التي تجري بينهما لتحسين شروطها، لكنها لم تنجح، لأن واشنطن لم تحتوِ مطالبها وتدعمها وتنفذ شروطها بل واجهتها وهددتها بعدم فتح جبهة لأنها سترد عليها ردا عميقا”.
ويؤكد العزي ان “الولايات المتحدة استطاعت منذ 7 اوكتوبر إبعاد ايران عن غزة، لكن طهران في المقابل حوّلت المواجهة إلى البحر الاحمر، وإلى العراق في محاولة لإبعاد واشنطن والحلول مكانها والسيطرة كليا على العراق بواسطة الصواريخ والأذرع”، مشيراً إلى أن “الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية كاملة لما وصلت إليه الحالة معها اليوم في المنطقة والتعدي على هيبتها من خلال الأذرع لأنها ساهمت بإعطاء هذا الزخم الفارغ لايران بعد الاتفاق النووي عام 2014 وقدمت لها أربع عواصم عربية، لأنها فاوضتها على المشروع النووي ونسيت الأذرع والمسيرات والصواريخ”.
ويعتبر العزي أننا “دخلنا في مرحلة جديدة، ايران التي استطاعت ان تفرض استراتيجيتها في المنطقة باتت تواجه اليوم الولايات المتحدة بأذرعها، لكن عندما تضغط واشنطن على هذه الأذرع، فإن طهران تتخلى عنها وتعلن ان هذه الأذرع لها استقلاليتها وقيادتها وقرارها المستقل”، مؤكدا ان “ما حدث في العراق رداً على ضرب البرج 22 في منطقة الحدود الاردنية والسورية، يشبه أحداث 11 ايلول 2001، فقد بات واضحاً ان الاميركي اصبح في حالة معينة لا تسمح له إلا بالرد، حتى لو ان البعض اعتبر ان واشنطن أعطت إخبارا لايران التي أخلت الصف الاول وأفرغت مستودعاتها، لكن في النهاية كان هناك رد عنيف من الولايات المتحدة لما تعنيه هذه الضربة التي كانت بحد ذاتها رسالة ايرانية”.
ويضيف: “قد تكون ميليشيات ايران أخطأت بهذه الرسالة لكنها حاولت من خلالها توجيه رسائل عدة، الاولى، ان هذه الضربة لم تأتِ من فراغ بل هي تهديد فعلي، لأن ايران تشعر بالقلق. خاصة وان الولايات المتحدة كانت تعمل قبل 7 اكتوبر على توحيد منطقة الجنوب السوري مع المناطق الشرقية وبالتالي تحجيم وتقليص دور ايران في هذه المنطقة، وكانت انتفاضة السويداء، لكن حرب غزة جمّدت العملية.
الثانية، ان ايران تقول للولايات المتحدة بأن طريق البهارات التي تمر عبر الهند بموافقة اميركية هندية وسكوت صيني عبر الخليج العربي للوصول الى مرفأ حيفا سيمنعها هي وادواتها من الاستفادة من هذه التجارة، لهذا تحاول التصعيد في البحر والبر الشرقي للقول بأن هذه النقاط غير مقبولة.
الثالثة، شعور ايران بأن حرب غزة انتهت وبدأت ملامح تسويات تظهر من الخارج، ولذلك تخيّر الولايات المتحدة بين الجلوس على طاولة المفاوضات او مواجهة تخريب كل مشاريعها وخاصة الدولة الفلسطينية، مع التوجه الاميركي والبريطاني للاعتراف بدولة فلسطينية، الامر الذي سيقتطع من يد ايران الكثير من الملفات واهمها الورقة الفلسطينية ويُضعِف الورقة اللبنانية والسورية. وبالتالي هي تقول لواشنطن بأنها ستقترع بالجلوس على الطاولة كشريك في ظل ادارة بايدن او ستقترع بالحديد والنار للادارة الجديدة لدونالد ترامب، وانها ستؤدي الى اسقاطه بواسطة الضحايا الذين سيسقطون بنيران صواريخها.
الرابعة والاهم ان ايران تريد اليوم الاسراع من خلال دفع الميليشيات العراقية لتسجيل موقف سريع من قبل الادارة الحالية بجدولة الانسحاب وتحقيق نصر على الولايات المتحدة وترك فراغ سياسي في العراق يكون لصالح ايران التي تسعى لتحقيق نفوذ من البحر الاحمر حتى المتوسط،. لكن في المقابل الضربات العراقية التي لم تحسب لها حساب ايران، كان رد فعل الدولة العميقة لاميركا، لأن غير مسموح أن تتعرض اميركا لضربة جديدة وتقل هيبتها، وقد ظهر ذلك جلياً في الصحافة الاميركية التي بدأت تعنوِن بأن آن الاوان ليأتي رئيس لاميركا جديد كما حال رونالد ريغن الذي ضرب ايران عام 1988 وانهزمت امام العراق. وبالتالي، بات واضحاً ان ايران سلمت اوراقها للولايات المتحدة، وتتضمن ضرب وتأديب سلوك الميليشيات”.
ويلفت العزي الى ان “منذ 44 عاما لم تعلن يوما بأن ستضرب وتقتلع النظام الايراني بل بأنها ستؤدب سلوكه. ولذلك بدأنا نلاحظ اقتلاع الأذرع بموافقة ايرانية، وربما من هنا تم الاتفاق في ما بينهما على تأمين حوافز ودور اقتصادي ونفوذ للدولة الايرانية بمقابل تحجيم دور الأذرع. وهذا ما نراه في كيفية الضرب الموجع واصطياد قيادات لحزب الله الايرانية والنجباء والحوثيين وضرب اماكن اسرائيلية في سوريا وضرب مواقع في لبنان. الخارطة المتبعة في تصفية القيادات، هي نفسها تلك المتبعة من قبل اسرائيل، وهذا يدل على ان الولايات المتحدة تعطي احداثيات لاسرائيل”.
ويختم: “نحن امام مرحلة جديدة من مراحل التعامل الاميركي مع الاذرع الايرانية في العالم العربي والتي تقوم على تصفية قادتها العسكريين ودون الاشتباك مع ايران، وهذا ما شهدناه بأن التجسس والشيفرا والبواخر والفرقاطات الايرانية والقادة العسكر الايرانيون لم يتعرضوا لأي ضربات، وهذا على ما يبدو لأن واشنطن حددت مدار الاشتباك فقط مع الميليشيات وليس مع القادة الايرانيين، لأن مهمة اميركا فعليا إبعاد ايران عن مشهد الصراع. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة لم تبعد الدور الايراني لأنه لا يزال مجديا وضروريا لها نظراً لأهميته كعامل مساعد توظفه لمصلحتها. لذلك لم تقم بضرب أي قواعد عسكرية بالرغم من ان ايران هي من تحرك هذه الميليشيات وتدربها وتسلحها وتعطيها الاوامر، ومثال على ذلك مسألة إنهاء دور حزب الله العراقي كمنظمة عسكرية وعدم التعرض لقواعد اميركية قبل يوم واحد انما كان برعاية اميركية، وهذا يدلّ على أن ايران وزعت المهمات ومن سيتلقى الضربة. ففي العراق ستتلقى الضربة والتصفيات حركة النجباء، في اليمن الحوثي، في غزة حركة حماس، وفي سوريا مجموعة من الزينبيون والفاطميون وكأن ايران توزع ادوارا بين مجموعاتها كي تتلقى الصدمات وتقلل من الخسائر لهذه المجموعات”.