كتب أحمد الأيوبي في “نداء الوطن”:
يبلغ الضخُّ العاطفي مداه عشية ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري ومعه تزداد الأسئلة الصعبة حول واقع السنّة والبلد من بعده، ولا شكّ أن لهذه الشهادة معاني كبيرة على المستوى الوطني والإسلامي وأنّ مسيرته شكّلت مساحة ضوء كبيرة في تاريخ لبنان المعاصر، ولهذا كان لغيابه أثرٌ بالغ وتداعيات مزلزِلة غيّرت ملامح السياسة وأطلقت مارد الوحدة الوطنية ليلتقي اللبنانيون في قلب بيروت وداعاً لشهيدهم، فكسر السنّة الطوق ورفعوا شعار «لبنان أولاً» وتكوّنت جبهة عريضة مسيحية إسلامية انتصرت على وحشية السلاح وكسرت موجة طغيان المحور الإيراني السوري بشراكة كاملة بين «تيار المستقبل» و»القوات اللبنانية» و»الكتائب» و»التقدمي الاشتراكي» وحالة واسعة من المستقلين، فهل يمكن للتيار الأزرق أن يواصل حضوره السياسي خارج الشراكة الوطنية والسيادية؟
السؤال الأساس هو أين يقف «تيار المستقبل» اليوم؟ وكم من المسافات تفصله عن التحالفات الوطنية الكبرى التي بنى أمجاده عليها؟ وهل يعتقد القائمون عليه أنّ بإمكانه العودة من دونها أو الاستمرار في حالة العزلة الإرادية التي اختارها لنفسه، والقائمة على مخاصمة «القوات» والاشتباك مع «الاشتراكي» وتجاهل «الكتائب» ومواصلة التبخيس في النواب السنة بالجملة والمفرّق، مع ترجيح الكفة للميل نحو معسكر «حزب الله» الذي يطلق نداءات العودة للحريري وعلى رأسه الرئيس نبيه بري بالتعاون مع «التيار الوطني الحر» أكثر من جمهور «المستقبل» نفسه؟ وهنا جوهر المسألة، فالاتجاه الوطني لا يمكن إخفاؤه في جلباب تعليق العمل السياسي، ولا تغطيه شعارات عامة لا تلبّي حاجة اللبنانيين إلى توازن حقيقي يحمل بوضوح هوية السيادة والحرية والاستقلال.
أسئلة أخرى تفرض نفسها أهمّها: ماذا بعد 14 شباط؟ هل سيتغيّر شيء في السياسة أو في الاقتصاد أو في الوضع السنّي؟ هل هناك ما سيقوله الرئيس الحريري حول أوضاع المناطق التي سيأتي إليه أهلها معزّين ومؤيّدين؟ وهل سيكون لديه تصوّر للوقوف إلى جانبهم في أزماتهم؟ أم أنّ اليوم التالي سيكون يوماً كغيره من أيام القحط المستمرة؟
تغيب أغلب النخب عن الذكرى هذا العام ويصطحب كلّ منسّق جمهوره بينما يعمل بعض النواب في عكار على تنظيم النقليات وحشد جمهور لم يعد في عداد الحالة المستقبلية المعروفة التي انكفأت وجوهها وتوارت، بعد تصفيات تنظيمية غيّرت شخصية التيار وأثّرت في هويته وسلوكه السياسي والإعلامي والاجتماعي.
ثمّ ماذا بعد كلّ هذه التعبئة وماذا بعد كلّ هذا الضخّ الإعلامي والسياسي الذي يُشعر من يتابعه بأنّ تغييراً كبيراً سيحصل إذا نزل الناس بكثافة إلى الضريح وبدا «تيار المستقبل» قادراً على الحشد الشعبي من سيستثمر هذا الحشد في السياسة؟ هل هو الرئيس سعد الحريري نفسه أم من يتنازع مراكز القوة في التيار حالياً ويخوض استحقاقاته بعيداً عن السقف الذي رفعه الحريري عند إعلان تعليق العمل السياسي؟
ما لا يلاحظه الكثيرون هو أنّ ما يجري منذ انهيار تجربة 14 آذار بأبعادها الوطنية الكبرى، هو محاولة البعض تحويل ذكرى الاستشهاد إلى قضية شخصية حزبية محصورة بالحق في الوراثة السياسية وبالإصرار على آحادية التمثيل السني، وعدم صلاحية أيّ أحد غير الرئيس الحريري لحمل مسؤولية الطائفة السنية، وهذا تحوّل خطر لأنّه يعزل القضية عن أهلها وهم أغلب اللبنانيين الذين يتوافقون أو يختلفون اليوم مع الرئيس سعد الحريري، إلاّ أنّهم يلتقون معه على رفع شأن شهادة والده باعتبارها تضحية وطنية غالية.
ربّما كان الأفضل أن تقتصر الكتابات حول ذكرى استشهاد رفيق الحريري على الجوانب الأثيرة في شخصيته واستحضار مآثره التي لا تُحصى، لكنّ من يتولّى التحضير للذكرى جعلها تخضع للكثير من الجدل بسبب إصرار البعض على استغلالها لأغراضٍ ضيّقة لا ترقى لمقاصد إحياء سيرة عظيم وكبير قضى وهو يحاول بناء مداميك وحدة لبنان واستشهد لأنّه أصرّ على هذا البناء.
يستحق الاحتفاء بذكرى استشهاد رفيق الحريري أن يكون بحدّ ذاته محطة احترام ومحبة وطنية لكنّها تحوّلت مع الوقت إلى مناسبة حزبية وشخصية محصورة، فتقلّص الالتفاف حول الضريح برمزيته الجامِعة إلى تقاطر المناصرين لـ»تيار المستقبل» بحضورٍ يتغيّر بين العام والآخر متأثِّراً بالجوّ السياسي العام.
صحيح أنّه لا يمكن تكرار تجربة 14 آذار بأبعادها السياسية والحزبية، لكن لا يمكن للسنّة أن يتحرّكوا خارج دائرة السيادة والحريات ورفض السلاح غير الشرعي بالتوازي مع رفض الفتنة الطائفية والمذهبية. وهذا هو جوهر رسالة رفيق الحريري حياً وشهيداً ورمزاً.