كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
الإعلانات لتوظيف عاملين وعاملات في المستشفيات الحكومية تنتشر. فما على الراغبين سوى تقديم طلبات التوظيف لدى أقسام شؤون الموظفين. للقارئ أن يشعر للوهلة الأولى وكأنه أمام مشهد فتح أبواب المشاركة في مسابقة جمالية. لكن ليس غريباً أن تصبح الفوضى مساراً حتمياً، داخل المستشفيات الحكومية تحديداً، وسط ما يلامس تواطؤ جهات مسؤولة كثيرة. موظفو «شراء الخدمة» يوظَّفون على حساب الناجحين في مجلس الخدمة المدنية. ألم يحِن وقت رفْع يد المحسوبيات عن هذا الملف؟
في العام 1997، وقّع الرئيس رفيق الحريري القانون رقم 602 الذي نصّ على إعطاء المستشفيات الحكومية استقلاليتها الإدارية والمالية، مع الإبقاء على دور الوصاية الإدارية لوزارة الصحة، على أن تخضع المستشفيات لرقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي فقط، بعيداً عن رقابة مجلس الخدمة المدنية ووزارة المال. ورأى كُثر في ذلك «تنفيعة» هدفت إلى إرضاء ممثّلي الأحزاب والطوائف في مختلف المناطق في إطار سياسة واضحة للإفلات من المحاسبة. ثم جاء العام 2004 حيث صدر قانون الموازنة العامة الذي نصّت المادة 54 منه على أن يتمّ التعيين والتعاقد في المؤسسات العامة (ومنها المستشفيات الحكومية) بموجب مباراة يجريها مجلس الخدمة المدنية وفقاً للشروط المطلوبة للتعيين. غير أن الواقع جاء مغايراً تماماً. فماذا حصل؟
القرارات في وادٍ والتعيينات في آخر
مصدر مطّلع شرح لـ»نداء الوطن» كيف تجاهلت المستشفيات الحكومية نتائج مباريات مجلس الخدمة المدنية لتقوم بتوظيفات تنفيعية بحتة تحت مسمّى «شراء خدمة». فمَن هُم موظفو «شراء الخدمة» هؤلاء؟ «إنهم موظفو الـ«Alo» الذين تخطّى عددهم حالياً ثلثَي عدد موظفي بعض المستشفيات، وهم من غير المتعاقدين ولم يمرّوا أصلاً عبر مجلس الخدمة المدنية. لا بل ازداد عددهم بشكل ملحوظ بعد الأزمة الاقتصادية. إذ بدلاً من الرجوع إلى نتائج مباريات الخدمة المدنية لتعيين الناجحين مكان المغادرين، قامت المستشفيات، بموافقة وزارة الصحة، بتعيينات «غبّ الطلب» محوّلة بذلك المستشفيات الحكومية إلى ما يشبه ملكية خاصة تعبث في قوانينها». وبالتالي، راح موظفو «شراء الخدمة» يطالبون بحقوق المستخدَمين الدائمين من بدلات نقل وتعويضات وغيرها. كل ذلك حصل بمباركة الاتحاد العمالي العام في مخالفة فاضحة لقرار مجلس الوزراء رقم 21 تاريخ 19/08/2004 كما لكتاب وزارة المالية رقم 1356 تاريخ 29/12/2006، وهذا ما أكّده التفتيش المركزي أيضاً في إحدى توصياته.
تجاه هذا التمادي، عبّر مجلس الخدمة المدنية، في تقريره السنوي عام 2010، عن رفضه لمخالفات القوانين النافذة هذه، رافضاً السكوت عن مصادرة صلاحياته كون توظيف «شراء الخدمة» بحجة تسيير المرفق العام تعدّياّ فاضحاً على صلاحياته. وكان سبق لوزارة المالية أن أعربت في العام 2006 عن أن لا حقوق للعاملين بالفاتورة. ثم أصدر وزير الصحة، وائل أبو فاعور، تعميماً في العام 2014 يؤكد فيه أن شراء الخدمات بالفاتورة يشكّل مخالفة مالية وإدارية ولا يتّصف بالديمومة والاستمرار ولا يجب أن يأخذ طابع تقاضي التعويضات الدورية. لكن على من تُقرأ المزامير؟ ففي مستشفى الضنية، على سبيل المثال لا الحصر، يقارب عدد موظفي «شراء الخدمة» حالياً المئة مقابل 55 موظفاً من خلال مجلس الخدمة المدنية. وفي مستشفيات صيدا وسبلين ورفيق الحريري الحكومية أيضاً لا يختلف المشهد كثيراً.
تفريخ نقابات ولجان
«لم يكتفِ موظفو «شراء الخدمة» بالحصول على حقوقهم التي لا يحق لهم بها أساساً، إنما سعوا لـ»قوننة» وجودهم عبر نقابات ولجان واتحادات تعمل على التحرّك وتوتير الشارع حين تقتضي مصلحة المرجعيات السياسية التي تحرّكهم. علماً بأن كافة هذه اللجان هي غير شرعية». الكلام لمرجع قانوني متابع للملف أكمل ليعود بنا إلى العام 2016 حين قام وزير العمل الراحل، سجعان القزي، بتأسيس نقابة العاملين في المستشفيات الحكومية في لبنان الشمالي، وحيث كثرت علامات الاستفهام حول ما إذا كانت وظائف المؤسّسين تخوّلهم تمثيل المستشفيات الحكومية شمالاً. ليس هذا فحسب. فالهيئة التأسيسية لنقابة العاملين في المستشفيات الحكومية، مثلاً – برئاسة خليل كاعين، عامل صيانة فئة رابعة في مستشفى صيدا، ومحسوب على حركة «أمل» – باطلة ولا صفة قانونية لها. ويتساءل المرجع كيف للأخير أن يتكلم باسم الموظفين وأن يجتمع بوزير الصحة ورئيس الاتحاد العمالي العام.
بالانتقال إلى اللقاء الوطني للعاملين في القطاع العام الذي يرأسه عماد ياغي، هو مستكتب فئة رابعة في مستشفى بعلبك الحكومي، ويتكلم باسم مؤسسات القطاع العام كافة (ومنها المستشفيات الحكومية)، غافلاً أن للأخيرة مراسيم وقوانين تختلف عن الوزارات والإدارات. المتابعون يتساءلون عن مصادر وأهداف تمويل ياغي لعقد اجتماعات دورية مع نقابات في الخارج، وراتبه بالكاد يكفي لتغطية المصاريف الأساسية. وهي تساؤلات توضع بِرسم التفتيش المركزي وكافة الجهات المعنية، إذ كيف لمستخدَم فئة رابعة، مستكتب في مؤسسة عامة، أن يتكلم باسم جميع عمال القطاع العام؟
ثم هناك اللجنة الاستشارية للقيام بإعداد دراسة مالية لتصحيح رواتب العاملين في المستشفيات الحكومية، والتي شكّلها الوزير فراس الأبيض في العام 2022. فرئيسها هو الدكتور ناصر عدرا، مدير مستشفى طرابلس الحكومي وعضو المكتب السياسي في تيار المستقبل. ومن بين أعضائها علي البقيلي، المتّهم بتغطية ملفات فساد مالية في «صيدا الحكومي». إضافة إلى سمير أبو ضاهر الذي رُفّع إلى وظيفته خلافاً للقانون. وكاعين نفسه الذي لا علاقة له بالشؤون الإدارية والمالية، وأحمد طالب العامل في قسم الأشعة في مستشفى «أورانج ناسو» في طرابلس، وعضو اللجنة الإدارية في مستشفى حلبا الحكومي، والذي تُثار معلومات عن تعبئته استمارات موقّعة على بياض من أحد الأطباء. أما سهيل ريّا المحسوب على حركة «أمل» كذلك، فيعمل في قسم الضمان في مستشفى الحريري وقد عيّنه الأبيض مستشاره لشؤون المستشفيات الحكومية ولا يزال يتقاضى راتباً من المستشفى.
واجب إنساني… لا قانوني
حاولنا التوجّه إلى الوزير الأبيض علّنا نستوضح عن «المعايير» المجهولة التي تمّ على أساسها تعيين أعضاء اللجنة، لكن «الحظر» سيّد الموقف كالعادة. فانتقلنا إلى رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، الذي أشار لـ»نداء الوطن» إلى أن الاتحاد لم يكن يتدخّل في القطاع العام حتى العام 2017 حين أقرّت سلسلة الرتب والرواتب وكان هو رأس الحربة فيها. «القطاع العام يتألف من عدّة إدارات: الإدارة العامة والمؤسسات العامة كما المصالح المستقلة والمستشفيات الحكومية والبلديات وكل العمال المياومين وغيرهم من الذين يتقاضون من المال العام. ويُفترض في هذه الحالة أن ندافع عن القطاع العام كون المصالح المستقلة والمؤسسات العامة هي العمود الفقري للاتحاد وعمود اقتصاد الدولة. علماً بأن المادة 3 من النظام الأساسي للاتحاد تخوّله الدفاع عن كل عمال لبنان أينما وُجدوا والمساهمة في إيجاد التشريعات التي تنصفهم كونه الهيئة الأكثر تمثيلاً لهم».
لكن ماذا عن المطالبة بحقوق موظفي «شراء الخدمة» غير القانونيين؟ يجيب الأسمر: «أصبح عددهم قليلاً جداً. الأكثرية مستخدَمون خضعوا لمباراة مجلس الخدمة المدنية والباقون أجَراء يخضعون لامتحانات تنظّمها المستشفيات الحكومية. نحن نطالب أوّلاً بحقوق المستخدَمين والأجَراء ثم حقوق موظفي «شراء الخدمة»، لأنهم بشر وإذا استُعين بهم في إحدى المراحل وما زالوا موجودين، وجب الدفاع عنهم وحفْظ حقوقهم». أما في ما خصّ النقابات واللجان، فهي تتحرك تحت غطاء الاتحاد للمطالبة بحقوق موظفي المستشفيات الحكومية وهي مؤلّفة من مستخدَمين وأجَراء. «الشرعية التي تُسبَغ على هذه اللجان تكمن في التجاوب الكلّي مع الإضرابات التي تدعو إليها كما وجود الاتحاد إلى جانبها. وكل ما يدور من كلام بخلاف ذلك مبالغ فيه وغير صحيح».
الرقابة أوّلاً
مصادر قانونية نفت، تعقيباً على كلام الأسمر، وجود مراسيم وقوانين تسمح لمستشفى حكومي بإجراء امتحانات لتعيين أجَراء لديه من دون الرجوع إلى مجلس الخدمة المدنية. أما المادة 3 من النظام الأساسي التي استند إليها الأسمر، فلفتت المصادر إلى أن النظام يعني العاملين في القطاع الخاص، في حين أن للمستشفيات الحكومية قوانينها ومراسيمها الخاصة، وموظفوها من المستخدَمين والمتعاقدين والأجَراء. وهكذا، يكون الدفاع محقّاً بالنسبة للمتعاقدين وليس لموظفي «شراء الخدمة» الذين لا حقوق لهم. «يعتبر الاتحاد أن عليه حماية كل من يعمل في القطاع العام باعتبار أن هؤلاء أصبحوا موظفين ثابتين بعد أن مرّ على توظيفهم زمن طويل. لكن القانون لا ينصّ على ذلك. فموظفو «شراء الخدمة» يتوجّهون إلى الاتحاد كونهم تعيّنوا من خلال الجهات السياسية نفسها التي أتت برئاسته».
بجميع الأحوال، كنّا نودّ لو يطلعنا الأسمر على المناصب الوظيفية لرئيس وأعضاء لجنة المستخدَمين والعاملين في مستشفى الحريري، وما إذا كانت تشمل وظائف قيادية من رؤساء أقسام ودوائر ومصالح، أو من اختصاصات مالية وإدارية وحقوقية وفنية. كما كنّا نتمنى لو يتمّ التحقّق من واقعة ضغط رئيس مصلحة القضايا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والمستشار القانوني للاتحاد العمالي العام المحسوب على حركة «أمل»، صادق علوية، على مستشفيي صيدا والحريري لإلزامهما بتسجيل كافة الموظفين، ومن ضمنهم موظفو «شراء الخدمة» خلافاً للقانون.
ننهي بدردشة مع رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، حيث سمعنا تأكيداً أن المستشفيات الحكومية هي من المؤسسات العامة (أي من الجهات الشارية المسمّاة في المادة 2 من قانون الشراء العام، وهي بالتالي خاضعة لأحكامه). لكن هناك فقط ثلاثة أو أربعة مستشفيات من أصل ثلاثة وثلاثين تلتزم إلى حد ما بالقانون المذكور. وسمعنا أيضاً من العلية أنه بصدد توجيه مذكّرة إلى كافة المستشفيات تلك بوجوب النشر على الموقع الإلكتروني للهيئة.
كل هذا ولم نتطرّق إلى حالات تعيين غير لبنانيين مكان لبنانيين، ما سنعود إليه قريباً. لكن بمعزل عن هذا وذاك، يذهب مراقبون إلى التشديد على إجراء مسْح شامل يطال كافة المستشفيات الحكومية، من دون استنسابية. والأهمّ أن تعي الجهات الرقابية مسؤولياتها قبل الحديث الممجوج عن هدر المال العام وكيفية لجمه.