كتب منير الربيع في “المدن”:
على خيط مشدود تسير البلاد. ويسير معها الفاعلون سياسياً وديبلوماسياً أو عسكرياً. لا يزال لبنان يؤكد أنه لا يريد الحرب، وأن ما يقوم به حزب الله هو “التزام أخلاقي” في إطار التضامن مع غزة ومساندتها. وأصبح هذا الموقف يسري على الدولة اللبنانية، التي يؤكد مسؤولوها أنهم لا يريدون الحرب أيضاً، ولكن اسرائيل هي التي تصر على الاستفزاز وعلى توسيع نطاق عملياتها وجرائمها في الجنوب لتحقيق أكثر من هدف.
أربعة أهداف
من الواضح أن المساعي الإسرائيلية تطال أكثر من هدف، الأول هو الضربات العسكرية والأمنية لحزب الله. الثاني، هو إلحاق أذى تدميري في أكبر مساحة ممكنة من مساحات الجنوب، على صعيد الأبنية، وفي سبيل تهجير السكان، وعلى صعيد الزراعة أيضاً. الثالث، هو محاولة خلق شرخ داخلي لبناني، من خلال تصريحات لمسؤولين إسرائيليين بأن الدولة اللبنانية تتحمل المسؤولية وليس فقط حزب الله. وهذا يراد منه أن تشتد الحملات السياسية المعارضة للحزب في الداخل. أما الرابع، فهو محاولة إسرائيلية لحجب كل أشكال التمايز بين حزب الله وحركة أمل.
في الأيام الماضية، سعت اسرائيل إلى تنفيذ أكثر من عملية، استهدفت بها مواقع ومنازل لحركة أمل وكشافة الرسالة، خصوصاً أن عناصر “الرسالة” هم الذين يتولون عمليات مسح الأضرار وإطفاء الحرائق ونقل الإصابات والجثامين إلى جانب عمل المقاومة، إلا أن بعض الأطراف في إسرائيل تصر على استهداف عسكري للحركة وإسقاط قتلى منها، في محاولة لتعطيل وقطع الطريق على مسار المفاوضات، خصوصاً في ظل ما يعلمه الإسرائيليون حول الثقة الدولية والأميركية خصوصاً برئيس مجلس النواب، نبيه برّي، الذي يسير أيضاً على خيط مشدود، إنطلاقاً من العلاقة التحالفية مع حزب الله والتي تجسدت وحدة بالدم، بالتزامن مع دوره الأساسي كمفاوض أول باسم لبنان مع كل المجتمع الدولي، لوضع تصور حول آلية وقف إطلاق النار. والأساس هنا، أن عناصر حركة أمل لم يتحركوا إلا بعد استهداف المدنيين، واللافت أن كل بيانات نعي الحركة لشهدائها، تختتم بأنهم “شهداء على طريق لبنان والجنوب”. وبالتالي هم استشهدوا دفاعاً عن أرض لبنان في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
“مواجهة الخوف بالتخويف”
هناك في اسرائيل من يسعى إلى قطع أي مسار من مسارات التفاوض. ولذلك، ثمة من يحاول تصوير حركة أمل كحزب الله، علماً أن هذه المعادلة غير قائمة على المستوى الدولي، لا بالنسبة إلى الأميركيين ولا الأوروبيين، الذين تحج وفودهم إلى عين التينة، للبحث في صيغ ومقترحات وحلول للأزمة القائمة، وللسعي في سبيل منع التصعيد ومنع التدهور. لا تزال الضغوط الأميركية متواصلة على الإسرائيليين، لمنع توسيع إطار المعركة مع لبنان. ويبرز في تل أبيب توجهان، الأول يشير إلى ضرورة الاكتفاء بما يجري والرهان على اتفاق سياسي. والثاني، لا يزال يجنح نحو جنون التصعيد.
لكن كل المفاوضات الدولية أصبحت على قناعة بأن التهديدات الإسرائيلية بالتصعيد تجاه الحزب ولبنان ناجمة عن معادلة “مواجهة الخوف بالتخويف”. والمقصود بها أن الإسرائيليين يحاولون تخويف اللبنانيين بالعمليات العسكرية والتهديد بتوسيعها، لأنهم يعلمون أن أي مواجهة واسعة أو حرب مفتوحة، ستكون نتائجها كبيرة جداً على الداخل الإسرائيلي، خصوصاً أن عملية صفد والعمليات التي سبقتها خرقت الردع الإسرائيلي، وأسقطت فعالية القبة الحديدية، وأوصلت رسالة واضحة بأن الوصول إلى صفد يعني القدرة على الوصول إلى حيفا ويافا وتل أبيب.
لذلك يعمل الإسرائيليون على رفع سقف تهديداتهم لتخويف لبنان. علماً أن الخوف مزروع لديهم أيضاً، على حد ما ينقل ديبلوماسيون يصرون على الاستفادة من الفرصة القائمة لوضع حد لهذه المواجهات، كي لا تتصاعد.
نقل النهر أسهل
عملياً، يرفع الإسرائيليون معادلة إبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، فيما الحزب يعتبر ذلك من سابع المستحيلات. وقد استخدم أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله عبارة نقلت عن لسان برّي، بأن نقل النهر إلى الشمال أسهل من نقل الحزب. هذا التضارب يقود إلى معادلة من اثنتين، إما الاستمرار في حالة الاستعصاء والتصعيد، أو الذهاب للبحث عن حلّ وسط. هنا، يلجأ الجميع إلى نبيه برّي، “صاحب الحلول” على حدّ تعبير المسؤولين الديبلوماسيين والدوليين الذين يستمرون بالتواصل معه.
يعتبر هؤلاء أن برّي صاحب قرار وتأثير، وهو الذي دائماً قادر على ابتكار الحلول، وهو الذي أنجز اتفاق إطار لترسيم الحدود البحرية. ولا بد من الرهان على دوره في معادلة البرّ ووقف الهجمات. وكان برّي قد أكد بوضوح أنه مع تطبيق كامل للقرار 1701 بشرط أن تلتزم به اسرائيل، ويلتزم به لبنان وعدم ظهور أي نشاط مسلح في جنوب الليطاني. طبعاً، وفق هذه المعادلة يسقط المطلب الإسرائيلي في نقل عناصر وكوادر حزب الله من جنوب النهر إلى شماله.
العودة إلى برّي
في الأيام القليلة الماضية، وعلى وقع التصعيد الذي شهده الجنوب، تجددت الاتصالات الدولية المكثفة مع برّي، لا سيما من خلال المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، الذي لا يزال يشدد على ضرورة تجنب التصعيد. وقد تلقى لبنان إشارات خارجية -بما فيها أميركية- حول استمرار الضغط لمنع اسرائيل من توسيع نطاق العمليات.
تحرك هوكشتاين وهو المقتنع بأن الحل في لبنان سيأتي بعد وقف إطلاق النار في غزة، ولا يزال مؤجلاً إلى أن تحين تلك اللحظة. لكنه مستمر بالعمل عبر فريق عمله على إعداد ورقة الحلّ، وبالتنسيق مع رئيس مجلس النواب. في الموازاة، تتواصل التحركات الفرنسية والبريطانية أيضاً لتقديم رؤية الحلّ. لكن في النهاية هناك قناعة لبنانية بأن كل هذه المقترحات ستوضع في سلّة أميركية، لا سيما أن اقتراح هوكشتاين والمقسم إلى مراحل ثلاث يعتبر الأكثر واقعية. فالمرحلة الأولى لوقف المواجهات، والثانية لإعادة السكان على الجانبين إلى مساكنهم، وتطبيق القرار 1701، والثالثة البحث في ملف انجاز عملية تثبيت الحدود وانسحاب اسرائيل من نقاط متنازع عليها.
هنا يعود نبيه برّي ملاذاً للجميع، كمفاوض أول حول وضع الجنوب وغيره من الأوضاع السياسية، ربطاً بالاستحقاقات الداخلية والدستورية. فيبدو الرجل مرتاحاً لوضعه وحركته وكأنه يقول:” أمطري أنى شئت، فخراجك عائد إلي”.