جاء في “الراي”:
بين محادثات الهدنة التي «لم تكن واعدةً» على خط إسرائيل – حماس، وتَوَعُّدِ «حزب الله» بلسان السيد حسن نصر الله بالردّ على استهداف المدنيين في جنوب لبنان وفق معادلة «الدم بالدم» (دون تحديد إذا كان يقصد المدنيين أو العسكر) مهدّداً بأنّ إيلات في مرمى صواريخه، ترتقي المخاوفُ حيال أفقِ الجبهة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية التي بات انفجارها معلَّقاً على «خيط رفيع» من حساباتٍ بالغة الدقة في مقلبٍ (حزب الله)، واحتسابٍ بالأيام أو الأسابيع القليلة من تل أبيب للمسارات الممكنة لإنهاء حرب غزة بحدٍّ معقول من «بنك الأهداف» الذي رسمتْه فيتمدّد إطفاءُ النار إلى الجبهة الشمالية حيث تُعِدُّ واشنطن إطاراً لـ «اليوم التالي» لبنانياً يتيح بلوغَ حلّ مستدام.
ومع مضيّ إسرائيل أمس في استهدافاتٍ تدميرية داخل قرى جنوبية، في مقابل توسيع «حزب الله» عملياته التي طالت نهاراً تموْضعان للجنود الإسرائيليين في مستعمرتيْ شوميرا وإيفن مناحيم وتجمعاً في محيط موقع البغدادي مقابل ميس الجبل، بدا أن لا صوت سيعلو في المدى القريب فوق صوت الميدان الملتهب، من دون أن يكون أحد قادراً على الجزم بما إذا كان الصراعُ سيبقى ضمن حدوده الراهنة بالتصعيد التَماثُلي، جغرافياً كما بكثافة النيران والحمولة التفجيرية في انتظار الطلقة الأخيرة في غزة، أم أن تل أبيب قد تلعب ورقةَ الحرب الأكثر شمولية بِما يكفي لإيلام لبنان ولو لأيام واستدراج «تدويلٍ لأمنها» على الجبهة الشمالية «على الحامي» في توقيتٍ قد يسبق إيجاد مَخارج لانفجار غزة وربما يُلاقي اقترابَ بلوغ تفاهماتٍ لإخماده.
ولم ترَ أوساطٌ سياسيةٌ في مواقف الموفد الأميركي إلى لبنان وإسرائيل آموس هوكشتاين ما يؤشر إلى نضوجٍ مساعي خفْض التصعيد والحؤول دون انزلاقه الى صِدامٍ كبير ولا كامل خريطة الطريق التي ستَحْكُمُ الواقعَ على جبهة الجنوب بعد حرب غزة، وإن كان ما أعلنه قدّم صورةً أكثر وضوحاً، ولو «مشفَّرة»، حيال بعض التعقيدات التي تتحكّم بمهمّته الشائكة والمنضبطة تحت سقف قرار حاسم من واشنطن بمنْع حربٍ كبيرة على لبنان تعارضها بشدّة وتبذل جهوداً حثيثة لتفادي وقوعها، سواء بخطأ كبير أو قرار كبير.
فهوكشتاين، الذي أكد «ان حرباً أكثر شمولية ليست الحلّ»، معلناً «أنّنا نحاول إبقاء الصراع في جنوب لبنان عند أدنى مستوى»، ومُقِرّاً بأن «ثمة ارتباطاً (لجبهة الجنوب) مع ما يحصل في غزة»، كشف أن الهدف الرئيسي الذي يعمل عليه والمتمثل في وقف الأعمال العدائية وتمكين سكان البلدات الحدودية في جنوب لبنان كما على الحدود الشمالية لإسرائيل من العودة إلى منازلهم لا يكفي، كضامنٍ له، حصولُ وقفٍ للنار «بل ظروف وشروط تضمن الأمن» وتراعي المتغيرات التي أفرزها 7 تشرين الاول «فمتطلباتُ ما يدخل في الاعتبار الأمني لم تَعُدْ كما كانت عليه في 6 تشرين الاول، ولهذا يتعيّن أن يكون لدينا ترتيب أكثر شمولية يتضمّن مجموعة من الخطوات على المقلبين لضمان مثل هذه الإجراءات».
ورغم أنه أكّد المضي بالحوار وفق الطريقة «الهادئة» التي يعتمدها مع الطرفين «فلدينا طرق للتواصل مع الجميع في الشرق الأوسط (…) لنتبيّن ما الشروط المطلوبة وكيف نصل إليها، وكلي أملٌ بأن نتمكن من بلوغ حل ديبلوماسي»، فإن ما أعلنه هوكشتاين لم يؤشّر إلى اقترابِ إيجاد أرضية مشتركة، بدليل أنه لم يزر بيروت بعد محطته الأخيرة في إسرائيل من دون أن يُعرف متى سيعود إلى العاصمة اللبنانية.
وثمة انطباعٌ لدى الأوساط السياسية بأن ما يَجري في الجنوب وما قد يحصل لاحقاً، هو أقرب الى «تفاوض بالنار» بين حزب الله وإسرائيل ولعبة «ليّ أذرع» على حافة الهاوية لتحصين المواقع وتحسين الشروط في تفاهُم ومهما تأخَّر إلا أنه آتٍ، ولن يقتصر على الشق الأمني والعسكري بل تُدْخِل واشنطن عليه «جزرة اقتصادية» تحدّث عنها موفدها بكلامه عن «عمل كثير سيتعيّن علينا القيام به لدعم الجيش اللبناني (مطلوب تعزيز انتشاره في منطقة القرار 1701) وبناء الاقتصاد في جنوب لبنان، وهذا سيتطلّب ائتلافاً دولياً للدعم لا يتألف فقط من الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى، بل كذلك من دول الخليج التي أمل أن نرى منهم الدعم عندما ندخل في المرحلة التالية».
الراعي… والحريري
في موازاة ذلك، وفي حين لم يرشح الكثير عن مضامين اللقاءات الدولية والعربية التي عقدها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على هامش مشاركته في «مؤتمر ميونيخ للأمن» (اجتمع مع هوكتشاين ايضاً) وتركّزتْ على الوضع في جنوب لبنان، فإن المشهدَ الداخلي يطّل على أسبوع ينطبع بأمرين:
– إحياء الذكرى 19 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري (في 14 الجاري) بمشاركة الرئيس سعد الحريري وما رافقها من استنهاضِ الأخير بيئته الشعبية الحاضنة وتَحَوُّل «بيت الوسط» إلى «محجّة سياسية» في مشهديةٍ أعادته إلى قلب اللعبة ولو كـ «ناصِحٍ ومُراقِب» إلى أن يحين الوقت للرجوع رسمياً عن قرار تعليق العمل السياسي.
– والصرخة الجديدة من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والتي بدت محمّلة بردودٍ غير مباشرة على مواقف نصرالله الذي كان صوّب ضمناً على مواقف سابقة لرأس الكنيسة في ما خص الحرب «وثقافة الموت».
فالحريري الذي غادر بيروت، أمس، بعدما كان زار مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، بقي محورَ الاهتمام العالي، وسط خلاصاتٍ بارزة لـ«عودة 2024» وأبرزها أن تعليق العمل السياسي الذي أعلنه في كانون الثاني 2022 «عُلِّق» ولكن مع وقف التنفيذ ريثما تكتمل عناصرُ المشهد الجديد في المنطقة في ضوء حرب غزة وآفاقها بما يجعل أي انخراطٍ جديد له في الشأن الوطني مدفوعاً برافعةٍ خارجية لأي تسوياتٍ داخلية فلا يتكرّر وقوفه وحيداً في مربّع «دفْع الأثمان» عن نفسه والآخرين من أقربين وأبعدين.
وفي لقاء مع وفد كبير من قطاع الشباب والطلاب في «تيار المستقبل»، كاشَفَهم الحريري بأن «المرحلة التي يمر بها لبنان حالياً ترقى إلى كونها مرحلة جنون سياسي، حيث كل طرف يعتقد نفسه أكبر من بلده ويتشبث بمواقفه السياسية».
وقال «في المقابل، كانت طريقة عملي شخصياً في السياسة مختلفة. فقد أجرينا ربط نزاع مع حزب الله وتعالينا على كل الخلافات التي كانت تحصل مع بقية الأفرقاء، وكنت دائماً آخذ الأمور في صدري وأحاول أو أسيّر شؤون البلد وإجراء الإصلاحات اللازمة وليس التشبث بمواقفي السياسية. ولكن للأسف، العقلية الموجودة أوصلتني إلى مكان تعبتُ فيه أن أقول إنني لم أستطع أن أنجز. وربما اكتشف اليوم الناس ما الذي كنتُ أتعرض له من محاولات تخوين أو اتهامات تطلق جزافا بحقي».
وأضاف «لو بقيت في العمل السياسي كنت سأكون مضطراً لأفاوض من جديد وأقوم بالتسويات وأتحملها أنا لوحدي، وفي النهاية تقع عليّ كل المسؤولية. أما اليوم فالجميع يقول إنه يحب سعد الحريري. لذلك قررت أن أبتعد وأترك الناس ترى الحقيقة».
ولفت الحريري إلى أن «تيار المستقبل بقي منكفئا خلال السنتين الماضيتين، أما الآن فسنكثف عملنا أكثر، ليس في الأمور السياسية، وإنما نؤكد أن محاولة التضييق على المحسوبين على تيار المستقبل في الدولة وغير الدولة لن نسكت عنها مطلقاً».
في موازاة ذلك، كان الراعي يعلن في عظة الأحد أنه «لا يمكن الاستمرار في هذه الحالة من التباعد واللاثقة المتبادليْن التي تعطّل حياة الدولة وتسمم المجتمع»، داعياً «ليضع الجميع فوق كلّ شيء هدف بناء الوحدة الوطنيّة بسبل جديدة ولغة جديدة وخصوصاً الولاء لوطننا النهائيّ لبنان»، ومعتبراً «أن البطولة ليست في صنع الحرب بالأسلحة المتطوّرة الهدّامة، بل البطولة هي في تجنّب الحرب وصنع السلام».
واستحضر الراعي، مقطعاً من افتتاحية للمطران كيرلّس سليم بسترس في جريدة «النهار» وفيها أن «لبنان مكوّن من 18 طائفة دينيّة، أي من المؤمنين بالله. وهذا الإيمان يفرض عليهم أن تكون علاقاتهم بعضهم ببعض متّسمة بالمحبّة (…) والوحدة الوطنيّة التي يتغنّى بها الجميع، إن لم تكن مؤسّسة على المحبّة تكون كذبةً كبيرة (…) عندنا كلّ طائفة لا تطلب إلّا ما هو لنفسها. فتسعى إلى احتكار الوظائف في الدولة وتعمل ما في وسعها لتتعدّى على حقوق الطوائف الأخرى. والمحبّة «لا تظنّ السوء» أمّا عندنا فكثيراً ما يحدث أنّ إحدى الطوائف لا ترى في الطوائف الأخرى، ولا سيما التي تناقض نظرتها إلى الأمور، إلّا جماعة من العملاء، والخونة».