جاء في “نداء الوطن”:
لطالما أكثر «حزب الله» من المصطلحات ذات الأبعاد الاستراتيجية العسكرية أو الوطنية أو الجهادية في وجه العدو الإسرائيلي لتغليف ممارساته الشاذة عن أبسط قواعد الشراكة الوطنية والمتفلّتة من أصول تعاطي أيّ مكوّن مع دولته وخضوعه لدستورها وقوانينها. فهو لا يخجل من مصادرة قرار الحرب والسلم والتفرّد في إقحام لبنان في خيارات يفرضها عليه بناء على أجندته الخاصة المرتبطة بمصلحة «محور الممانعة» غير آبه بأحد.
كما لا يتورّع «الحزب» عن إضفاء الألوهية و»عنجهية الشرف» على هذه الممارسات كوصفه استباحة بيروت في «غزوة 7 أيار» بـ»يوم مجيد» أو نعته كوادره المُدانِين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من قبل «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» بـ»أشرف الناس» أو حتى اعتباره «حرب تموز»- التي أكد أمينه العام السيد حسن نصرالله أنه ما كان ليخوضها لو كان يدرك حجم خسائرها – «نصراً إلهياً».
اليوم، وفي معرض تبريره فتح جبهة الجنوب «بلا إذن ولا دستور» وربط مصير لبنان بمصير غزة وجعله ساحة مستباحة في إطار «وحدة الساحات» وجزءاً من «عدة شغل» محور الممانعة وإحدى الأوراق التي تفاوض بها إيران، يستخدم مصطلحات أبرزها ثلاثية «الإسناد» و»الردع» و»الصبر الاستراتيجي».
ففور فتح «الحزب» الجبهة في جنوب لبنان في اليوم التالي لـ»7 أكتوبر»، سارع لاعتبارها جبهة «إسناد» لغزة لإلهاء جزء من الجيش الإسرائيلي. فأي إسناد هذا وأي إلهاء والعدوان على غزة أفقدها كل مقومات الحياة ولم يحل دون اجتياحها برّياً وتحويلها مستنقع موت وركام؟!!
لقد كان الجنوب جبهة جانبية لم تقدّم أو تؤخّر في مشهدية الإجرام الذي عصف بغزة، إنما حكماً أخّرت لبنان. أما ادّعاء «الحزب» أنها خطوة لردع العدوان الإسرائيلي فليس سوى «غشّ» علمي وعملي. علمياً، نظرية الردع هي إحدى نظريات إدارة الصراع ومصطلح «استراتيجية الردع» من المصطلحات الشائعة الاستخدام سواء في مجال التخطيط العسكري أم العلاقات الدولية والسياسية. تستند هذه النظرية إلى افتراض مفاده بأن القوة هي أفضل علاج للقوة ولكبح جماح الآخرين. يمكن تعريف مفهوم الردع بأنه استخدام تهديدات أحد الأطراف من أجل إقناع طرف آخر بالامتناع عن الشروع في بعض الإجراءات بسبب التكاليف والخسائر التي سيتكبّدها.
حين يتحدث نصرالله عن امتلاك مئة ألف مقاتل ومئة ألف صاروخ بما فيها صواريخ متطوّرة وذكية وبعيدة المدى تخاله يمتلك «أسلحة نووية»- وهي تشكّل أهم أدوات الردع عالمياً وخير مثال على ذلك مرحلة الحرب الباردة- ستدفع إسرائيل لإعادة حساباتها. إلا أنّ كل مواقف نصرالله وحديثه عمّا أسماه قواعد الاشتباك، لم يردع عملياً إسرائيل عن:
* شنّ غارات متتالية من الحدود جنوباً مروراً بإقليم الخروب ووصولاً الى عمق الضاحية الجنوبية.
* إرتكاب جرائم مع تخطي الفاتورة الدموية عتبة الـ220 بينهم ضحايا مدنيون.
* التسبّب في تحويل عشرات القرى الجنوبية ساحة حرب وتهجير أكثر من 80 ألف لبناني وتهديد العام الدراسي لآلاف الطلاب.
* تكبيد لبنان خسائر مباشرة وغير مباشرة تُقدَّر بأكثر من مليار دولار تقريباً وفق خبراء اقتصاديين.
* تلف المواسم الزراعية وضرب الحركة السياحية والاقتصادية والتجارية وإغلاق مؤسسات كثيرة في الجنوب وتَراجع الاستثمارات والموسم السياحي على صعيد لبنان.
يسارع «الحزب» وجمهوره الى القول إنّ إسرائيل أيضاً تتكبّد الخسائر وإنهم فرضوا على مستوطنيها إخلاء مستوطناتهم على الحدود مع لبنان. لكن فاتهم أنّ هؤلاء يقيمون في فنادق ومنتجعات وينالون المساعدات من دولتهم على عكس الجنوبيين المهجّرين الذين يئنّون تحت كاهل التهجير. كما أنّ إسرائيل تحظى بدعم مالي واقتصادي دولي فيما لبنان الغارق أساساً منذ 5 سنوات في دوّامة الانهيار المالي والاقتصادي لم يتلقَ أي مساعدات جرّاء هذه الحرب. لذا ربّما على «الحزب» استبدال معزوفة «الردع» بشعار «الصمود والتصدي» الذي قد يكون أكثر منطقية.
أما «الصبر الاستراتيجي»، فلا يعدو أكثر من حقنة «مخدر» من «الحزب» لبيئته والجمهور الممانع قد تتسبب بجرعة زائدة Overdose إذا ما طالت الحرب. ربما يتناغم هذا الأمر مع «الدعاء» الذي حضّ عليه نصرالله. الأمر ليس بصبرٍ بل محاولة سافرة لتبرير عدم الرّد على الإسرائيلي بالمثل رغم تهديدات هذا الأخير خلال إحياء ذكرى «القادة الشهداء» وتأكيده أن «استهداف المدنيين لا يمكن أن يمرّ دون رد… وسيدفع العدو الثمن».
ما جاء أعلاه «وقاحة» و»يرقى إلى مستوى الانحطاط الأخلاقي والسفالة» وفق تصنيف نصرالله في إطلالتيه الأخيرتين كونه تناول كلفة فتح «الحزب» جبهة الجنوب وتبعاتها وثمنها، لكنه أسئلة مشروعة من منطلق وطني أولاً. أما قوله إنّ «البعض يتحدث عن كلفة المقاومة وتبعاتها في لبنان، وهؤلاء يدعوننا إلى الاستسلام والحقيقة أننا أمام خيارين- لا ثالث لهما – إما المقاومة أو الاستسلام ولكن أيهما أكبر كلفة. وأقول إنّ ثمن الاستسلام باهظ وخطير ومصيري جداً»، فلا يندرج هذا القول إلا من باب التهويل لأنّ الخيار الثالث قائم وهو فصل مصير لبنان عن غزة والعودة بجبهة الجنوب الى ما قبل 8 أكتوبر والتجاوب مع المساعي الدولية الهادفة لإعادة إحياء القرار 1701.
لذا ثلاثية «حزب الله» القائمة على «الإسناد والردع والصبر الاستراتيجي» هي ثلاثية فارغة لا جدوى منها سوى كسب الوقت بانتظار انقشاع الصورة لدى «محور الممانعة»، فيما الوضع مفتوح على «حرب شاملة» على لبنان كرمى لـ»إسناد الحزب» والأصح مغامرته.