كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
هي تخبرنا: «شفت تياب إخوتي بين الركام، وترجّيتن يعطوني ياهن… بس حتى ريحة الذكرى سرقوها منّا»؛ وهو يضيف: «كل صور حياتي إندفنت تحت التراب… ما بقالي غير سنسال الوالد وساعة النبض يلّي بعدها واقفة عَل 5:47». تراجيديا سقوط المباني وحصد الأرواح ملازمة منذ سنوات لواقعنا المزري. وبين طيّاتها، هناك جراح من نجا من تحت أنقاض مبنى فسّوح، ويتألّم حزناً على ضحاياه الـ27، سنة 2012. جراح لم تلتئم بعد. فهل من يحسم التراجيديا، أو يدفع الثمن؟
آخر المشاهد أتتنا من انهيار مبنى الشويفات قبل أيام وحصيلة ضحاياه الأربع. قبله كانت المشاهد والشواهد كثيرة. كلّ منها يذكّرنا بما سبق ويخيفنا ممّا قد يأتي. وفي الأذهان تبقى ليلة 15 كانون الثاني 2012 المشؤومة. يومذاك خسرت غلاديس والدها وإخوتها الثلاثة. تقول بعد 12 عاماً إن جلّ ما تبقّى لها ولوالدتها هو إيمانهما… ورفاق إخوتها. «كل ما شوف حدا منّن كأنّو شفت إخوتي. وكلّ ما يتزوّج حدا بفرح كأنو عرس خيّي. الماما قاعدة بالجبل… هونيك بتحسّ حالها أقرب لزوجها وولادها».
بدوره، يسترجع جاك، الذي فقد والده في ذلك اليوم أيضاً، على مسمعنا أسماء «تانت عايدة» و»آن ماري» و»ليث» وغيرهم ممّن التقاهم للمرة الأخيرة على درج البناية وهم يحاولون الهرب من قدَر لم يُمهل. «كل ذكريات طفولتي، دراستي، أفراحي وأحزاني دُفنت تحت التراب. ما بِقي غير صورتي بذكرى أول قربانة والبنطلون يلّي كنت لابسو. كلو تخزّق ليلتها بس بعدني مبَرِوزو ومحتفظ فيه».
جراح أهالي مبنى فسّوح، المفتوحة على آلام لا تستكين، لا يضمّدها سوى كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، لعلّهم يكونون عبرة لغيرهم. لكنّ الملف القضائي ما زال «منيّماً» وسط ضغوطات سياسية رغم صدور حكم بالإدانة بحقّ صاحب المبنى وشقيقه. مسرح الجريمة تحوّل هو الآخر إلى موقف سيارات. وبين محاولة طمس الحقيقة ومساعي «التسكير» على القضية، ليس ثمة ما يضمن ألّا يكون هناك مشاريع ضحايا آخرين – وذوو ضحايا مثل غلاديس وجاك – في طبقات أكثر من 16 ألف مبنى مهدّد بالانهيار، بحسب أرقام الفنيّين والمهندسين والبلديات.
نجلس وجهاً لوجه مع غلاديس، بعد مرور السنوات وتباطؤ لحظاتها، لنسمع المزيد. «كان والدي قد غادر المستشفى قبل أسبوع من الحادثة، وغير قادر على المشي. حين أبلغنا صاحب المبنى بأنه يُستحسن مغادرة المنزل، ألقيت نظرة على أغراضي لكنني تردّدت في أخذها، فقد خانني أملي… في العودة. ظننت أن إخوتي حملوا والدي وسبقوني، لكن عندما نزلت لم أجدهم… فأدركت حجم المصيبة». لا يزال مشهد ملابس الإخوة الثلاثة التي مُنعت غلاديس من استعادتها يستفزّها. فهي الذكرى الوحيدة التي بقيت. حتى الحقائب التي تعرّفت عليها لدى القوى الأمنية، وبداخلها أوراق ومبالغ مالية، لم تُعَد إليها. «أين الصور والذكريات؟ ومن وضع اليد على الأغراض؟ لقد شاهدناها في موقف تابع لجهاد العرب… لكن لا ندري من أخذها».
أسوأ ما تتذكّره غلاديس – المسكونة وعائلتها بهاجس دخول المباني ومدى صلاحية المبنى الذي يقطنوننه حالياً – هو الطريقة التي تعاملت فيها فرق الإنقاذ والقوى الأمنية مستخدمين الجرّافات عشوائياً، رغم تحذير سكان المبنى من إمكانية وجود أشخاص تحت الركام. والأسوأ من الأسوأ هو التبرّعات التي وصفتها بالـ»الشحادة على ضهرنا»، إن من قِبَل بعض الجامعات أو حتى الكنائس، والتي لم يصلهم منها شيء في معظم الأحيان. «الجميع كان مسؤولاً، ولم يتحرّك منهم أحد. بدءاً بإهمال صاحب المبنى، وصولاً إلى أعلى السلطات السياسية والكنسية. المبادرات كانت فردية في وقت كان على الدولة أن تتحمّل مسؤوليّتها. فليرحلوا. لا حاجة لهم جميعاً، وليرفع الرئيس برّي يده عن الملف لينال كل مرتكب جزاءه كعبرة لمن يعتبر».
معاناة جاك ما بعد تلك الصدمة لا تختلف كثيراً. فالساعات العصيبة التي عاشها تحت الأنقاض قبل إنقاذه لا تبارحه. «حين استيقظت وجدت سقفاً متهادياً فوق رأسي، فظننت نفسي نائماً في غرفتي. مددت يدي بحثاً عن الريموت كونترول، فلم ألتقط سوى «كاش كابل» كهربائي. مرّرته فوق عيني فإذا بي أجد الأخيرة مضرّجة بالدماء. عندها أدركت أن المبنى انهار ليصبح همّي إنقاذ والدي. استمرّ علاجي لأكثر من سنتين. فالإصابة طالت عيني ورأسي وظهري ورجلي اليمنى». الضرر النفسي فاق الجسديّ بأضعاف. فالرجل لم ينزل بعد عن قمة جبل الأحلام والكوابيس التي تراوده باستمرار. يعترف بأنه لا يزال يُصبّح على والده ويمسّيه… ويحرص على استشارته كسنده الوحيد.
لم يبقَ سوى السنسال، حاملاً ذخيرة عود الصليب، وساعة النبض تلك. «أحنّ إلى الألفة والمحبة التي كانت تربطنا بالجيران. انتقلت مع والدتي إلى منطقة جبلية بعد أن خسرنا كل شيء، لكنّ نمط الحياة مختلف هنا. لم نتأقلم بعد. قتلوا حياتنا تماماً». يعتبر جاك أن المبنى لم يسقط لولا إهمال المالك ومحاولته مضاعفة مداخيله بشتى الطرق. «قام بالتضييق على معظم المستأجرين القدامى واستبدلهم بآخرين جدد. وكان استثماراً مربحاً له. طلبنا منه أكثر من مرّة صيانة السطح ومزاريب المياه لكنه لم يستجب. حتى العمود الذي «طقّ» يوم عيد الميلاد، أي قبل أيام من الانهيار، أعاد تدعيمه بشكل عشوائي بناء على استشارة هندسية، كما أوهمنا، رافضاً التعامل مع الحدث كإنذار جدّي».
«شو عملتلّي بالبلد»، يختم جاك متمتماً وعيناه مغرورقتان بالأسف والدموع. «الشيء الوحيد الذي يعزّيني هو أن والدي وجميع الضحايا هم في مكان أحلى من بلدنا وأنقى من حكّامه».
مجريات التحقيق
نلملم بعضاً من الأنفاس ونتّصل بالمحامي جان نمور، الذي تطوّع للدفاع عن أهالي ضحايا المبنى وتحصيل التعويضات المحقّة. وقد أشار في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن صاحب المبنى، كلود سعادة، اشترى في العام 2007 بناءً قديماً بسعر زهيد، مع علمه بعدم مطابقته معايير السلامة العامة، أو، بأقل تقدير، دون التأكّد من حالته. وقد تبيّن أنه أضيف إلى البناء ست طبقات رغم عدم وجود أعمدة بل «حيطان حاملة». ويكمل: «أقرّ سعادة خلال الاستجواب بوجود مخالفات ضمن البناء حالت دون تسجيله بشكل نهائي لدى الدوائر العقارية، ما استوجب التنبّه إلى وضعية العقار التي تشكّل بحدّ ذاتها خطراً على المبنى وسكّانه. ومع ذلك، فهو مارس سياسة الكيدية بحقّ المستأجرين القدامى لدفعهم إلى ترك المبنى وإجراء تغييرات في تقطيع الشقق وتأجيرها لأجانب. هذا يعني أن غالبية المستأجرين ليسوا من القدامى، وبالتالي فإن محاولة سعادة تصوير نفسه مظلوماً بسبب قوانين الإيجارات المتعاقبة في غير محلّها الواقعي والقانوني».
في 25/12/2011، وبشهادة السكان وإقرار سعادة، انكسر عمود داخل البناء غير أن الأخير لم يحرّك ساكناً، في حين اكتفى شقيقه، ميشال، باستبدال العمود المكسور بثلاثة عواميد حديدية لاحقاً. فما كان من المبنى إلّا أن انهار بعد أيام معدودة. ويتابع نمور: «خلال الاستجواب، حاول سعادة التملّص من المسؤولية والتذرّع بأن أعمال البناء التي حصلت في العقارين المجاورين أثّرت بشكل مباشر على المبنى المنهار. غير أن لجنة الخبراء المعيّنة من قِبَل قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نفت هذه الفرضية». كذلك، قام الدكتور منير حجل، وهو أستاذ في الهندسة، بتفحّص أرض العقار ليؤكّد أن سبب الانهيار ضعف داخلي. أما المهندس ميشال شكر، أستاذ هندسة الباطون المسلّح في كلّية الهندسة في الجامعة اليسوعية، فرأى أن بناءً مصمّماً في الأساس ليتكوّن من طبقتين لا يمكنه تحمُّل ستة طوابق إضافية، وأن «انفجار» العمود كان إنذاراً بضعف البناء. أما جميع المهندسين المشرفين، فشدّدوا على أن التدعيم المدروس علمياً كان ليحول بالتأكيد دون انهيار المبنى.
أين الحدّ الفاصل؟
نسب القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق الأول في بيروت إلى الأخوين سعادة جرمَي القتل والإيذاء غير المقصودَين؛ ثم أحيل الملف إلى القاضي المنفرد المدني في بيروت للمحاكمة، فصدر، في تشرين الأول 2015، الحكم الذي أدان الأخوين وألزمهما بدفع تعويضات بقيمة مئة مليون ليرة لعائلة كل ضحية، كما حكم عليهما بالحبس لمدّة سنتين. «يبدو أن القرار أزعج الأخوين سعادة، فقاما بتعيين المحامي علي فايز رحال الذي تقدّم بمراجعة «مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة العدليين» أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لنتفاجأ بعدها بقرار صادر عن الأخيرة يوقف بموجبه تنفيذ القرارات الصادرة سابقاً. ومنذ ذلك الحين والدعوى متوقّفة في الهيئة العامة لمحكمة التمييز»، بحسب نمور.
القضية التي حملها نمور في قلبه اعتبرها مفصلاً في حياة الناجين الذين سُلخوا عن ماضيهم وذكرياتهم. أما الملف «يلّي نزلّي دمعتي أكثر من مرة»، وفق تعبيره، فجرى «تنييمه» عمداً. والأسوأ أنه، مع استفحال الأزمة الاقتصادية، لم يعد للتعويضات أي قيمة تُذكر، حتى لو سُدّدت. «لكننا ماضون في الدعوى لأن كشف الحقيقة جزء لا يتجزأ من رحلة الشفاء. جرى توقيف سعادة لأشهر قبل أن يُطلق سراحه ليحوّل موقع الجريمة، في خطوة غاب عنها احترام ذكرى الأرواح التي ارتفعت هناك، إلى موقف سيارات يستثمره وكأن شيئاً لم يكن».
كان يُفترض – مجرّد افتراض – أن يشكّل انهيار ذلك المبنى حدّاً فاصلاً لفتح باب ملفات الأبنية القديمة والمتصدّعة على مصراعيه. وكان يُفترض أيضاً أن تحثّ الفاجعة على معاقبة المتورّطين وإعادة النظر في قانون البناء، وأن توضع البلديات ونقابة المهندسين أمام مسؤوليات إدارية ورقابية محورية. لكنّ السنوات مرّت، ولا هذه تحقّقت ولا تلك. فالانهيارات تتوالى. والمرتكبون غالباً ما يأمنون العقاب في كنف محميّات… أكانت سياسية أم سوى ذلك.