كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
لا يمكن تصوّر أن أزمة بحجم الأزمة اللبنانية يمكن أن تحلّ بمبادرة نيابية. وفيما تنشغل واشنطن وطهران والرياض بما بعد حرب غزة، يذهب لبنان أكثر نحو ثلاجة الانتظار
يُنقل عن ديبلوماسي أميركي رفيع قوله أخيراً، بعد جولات تفاوض شاقّة في المنطقة، إن الشرق الأوسط، من العراق الى سوريا ولبنان وفلسطين، لن يتوصل يوماً الى تسويات نهائية، وإن ما يمكن أن يصل إليه، بالحد الأقصى، تفاهمات مؤقتة في انتظار جولة جديدة من دورات العنف. تحديداً، هذا ما يجري حالياً في غزة، واستطراداً ما يمكن أن يحصل في لبنان الذي لم يحن بعد وقت إجراء تسوية كبرى فيه على غرار الطائف، بل مجرد تفاهمات وترتيبات كما جرى في الدوحة. وحتى هذه لم يحن وقتها بعد، لأن الجهد اليوم محصور بالميدان فقط.لا يمكن الكلام عما يجري من تفاوض حول الهدنة الموقتة في غزة، من دون التوقف عند الاحتمالات الموضوعة خارجياً لمقاربة الأزمة اللبنانية التي أصبحت على مستويَين: وضع الحدود الجنوبية والأزمة الرئاسية. وفي هذه النقطة الأخيرة، لا حديث خارجياً نهائياً عن أيّ تقدم قد يكون مطروحاً في الوقت الراهن. ومن العبث التعامل مع المبادرات النيابية المحلية الحالية على أنها يمكن أن تحقق خرقاً ما. فكل ما يجري مجرد مناورة داخلية وتقطيع وقت سياسي، يرمي بعض من السياسيين مسؤوليته على الرئيس نبيه بري لإحراج البعض وإلهائهم، في حين أن عمق الأزمة الرئاسية يحتاج الى حل على مستوى واشنطن وطهران والرياض.
ولهذه العواصم الثلاث انشغالات أخرى تتعلق بما بعد حرب غزة. فالولايات المتحدة ستدخل في مرحلة الانتخابات الرئاسية، وهي تتعامل مع لبنان حالياً حصراً بالوضع الحدودي الذي يعنيها ربطاً بإسرائيل، لذا لا تزال – عبر ديبلوماسيّتها في بيروت وخارجها – تحصر تحرّكها في منع إسرائيل من توسيع رقعة القصف، من دون فتح أيّ ثغرة حالياً في الملف الرئاسي. وهي المعنية الأولى والأخيرة عن ملف التفاوض مع إسرائيل ربطاً بكل مندرجاته والتفاصيل الأمنية المنبثقة منه.
وإيران، من جهتها، تقف عند حافة الترقّب ودرس ما يمكن تقديمه وما يشكل دفعاً لإدارة الرئيس جو بايدن حتى لا تتكرر تجربة حكم الرئيس دونالد ترامب. وهي تمكّنت، في الأشهر الخمسة الأخيرة، من فرض إدارة مضبوطة، ولا سيما لبنانياً، كي لا ترفع من الأثمان التي يضغط عليها لتقديمها. كما أنها، بدورها، لا تضع ملف الرئاسيات على جدول أعمالها اليوم. إذ إن كل ما يشغلها محصور بالعنوان العسكري. وهي، وإن كانت معنية بما يجري من تفاوض حول مستقبل حزب الله وانتشاره في الجنوب، إلا أنها لا تزال تقدم معادلة تقليل المخاطر الكبرى على الخسائر التي تقع، من اليمن الى العراق وسوريا بعد تطورات عسكرية أخيرة. فلا تضطرّ في الوقت الفاصل بين إدارتين أميركيتين الى خوض معركة واسعة من دون أفق.
أما السعودية فتنتظر ما بعد الحرب لإعادة تقويم ما بدأته قبلها في اتجاه العلاقة مع إسرائيل، مما لا يبدو أن مساره قد توقف، وهذا أمر أساسي، بقدر انشغالها بعدم كسر الهدنة مع إيران على مستوى الخليج. أما لبنانياً، فهي من جهة تغضّ النظر عن تحرّك نواب محسوبين عليها، ومن جهة أخرى تعطي تطمينات لحلفائها بأنّ أيّ ترتيب لن يكون على حسابهم. لكن، أكثر من ذلك، صار واضحاً لكل من يزورها أو يلتقي مسؤولين على بيّنة مما يجري لدى قيادتها، أن الوضع اللبناني مجمّد حتى إشعار آخر.
وفي ظل انشغال العواصم الثلاث، انحسرت حركة الموفدين الغربيين الى بيروت، لأن ما يجري على صعيد غزة سحب ملف لبنان الى مكان آخر. وكما أصبح مؤسفاً التعامل مع أحداث غزة لجهة تعداد من يسقطون يومياً في القصف الإسرائيلي وبحجم الدمار، من دون الكلام فعلياً عن الأزمة الكبرى وطرق حلّها في شكل نهائي، لا مجرد ترتيب ظرفي، أصبح الكلام عن لبنان مماثلاً. فبين تعداد ضحايا القصف الإسرائيلي وحجم الدمار الذي يخلّفه الطيران الإسرائيلي، صار ملف لبنان عالقاً عند مستوى حصره جنوبياً، بحيث بدا أنه منفصل تماماً عن الداخل اللبناني، سواء شعبياً بعد فورة التضامن في الأسابيع الأولى، أو كما ظهر عليه أداء حكومة تصريف الأعمال في القضايا اليومية البحت، حتى بدا الواقع الجنوبي، رغم التحذيرات الإسرائيلية بتوسيع رقعة القصف، كأنه محصور إعلامياً وسياسياً بحزب الله وحده. وفي الأسبوعين الأخيرين، بدا أن الوضع اللبناني لم يعد متقدّماً في الحركة الديبلوماسية الغربية، بعدما سلّم الموفدون بأن الأمر يتعدّى لبنان الرسمي، في ظل التهديدات الإسرائيلية، ولم يعد ممكناً سوى الانتقال الى عواصم القرار الأساسية، التي وحدها تملك مفتاح التهدئة. وهذا ما تتعامل معه القوى السياسية الداخلية على أنه أصبح أمراً واقعاً. فترتيب وضع غزة، قد ينتقل الى لبنان، ولكن فقط لجهة الوضع الجنوبي. أما الأزمة السياسية فلم يحن وقت حلّها بعد.