كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
الهواجس، الوجود، الدور، لبنان… لا جديد تحت شمس المسيحيين وغيومهم. لطالما رافقت هذه المُفردات أزمنتهم منذ فطرتهم ووعيهم لهويتهم وخصوصيتهم، وصولاً إلى تأسيس دولة لبنان الكبير التي انتزعوها من فكّي التحوّلات الدولية وتقاطعات مصالحها من ناحية، والطروحات الإيديولوجية والقوميّة المناهضة لنظرتهم الوطنيّة من ناحية أخرى. من عرق جبينهم ودماء تضحياتهم وانقشاع رؤيتهم توّجوا نضالهم التاريخي.
من يُعاين أحوالهم الراهنة، لا يُصدّق أن تلك الجماعة التي تمكّنت رغم كلّ الإضطهادات والأزمات في تقرير مصيرها، ها هي اليوم تخشى أن تكون خارج المطابخ السياسية وما يحاك من سيناريوات وترتيبات في الإقليم. أمّا الثابتة الأولى في وضعيتهم بين الأمس والحاضر، فهي ما دوّنه الأديب والمفكّر عبّاس بيضون (المولود في مدينة صور) في إحدى مقالاته؛ «من الصعب بعد العودة إلى ما وراء الدولة كما صاغها الموارنة، إلا في دعوة إلى الخلافة (أي دولة إسلامية) أو إلى لبنان الصغير». وتكمن الثانية في محورية دور البطريركية المارونيّة ومركزية استقطابها الروحيّ والمعنويّ والوطنيّ رغم تراجع نفوذها القيادي (من الأمام) بعد نشوء دولة 1920 ثمّ استقلال 1943 لصالح القوى السياسيّة الرئيسيّة.
ماذا يريدون؟ إذا كان جوابهم منذ البدء قاطعاً حول «أي لبنان نريد؟» ويقصدون به نهائية الكيان واستقلاله، ينقسمون بشأن أي «عَيشٍ نريد؟» كيف يزاوجون بين عنصرين: الشراكة التي أرادوها مع الآخرين في عزّ قوّتهم ثمّ ارتدّت عليهم في زمن وهنهم، وبين الحريّة التي يعدّونها ركناً أسياسيّاً من قانون إيمانهم وصيرورة وجودهم؟
متعدّدون في ليبراليتهم وهذه تُحسب لهم ومشتّتون في مشروعهم وهذه تُؤخذ عليهم. ينقسم المسيحيون كما اللبنانيون على كلّ شيء، يتباينون في توصيف المشكلة، منهم من يعتبرها بنيوية (طبيعة النظام)، آخرون يرونها سيادية بحت تتّصل بهيمنة «حزب الله» عبر سلاحه على مفاصل الدولة وقرارها الإستراتيجي، وبعضهم يختزلها بـ»اللويا جيرغا» أي «مَجمَع» الزعماء والطبقة السياسية الحاكمة وفساد إدارتها. في المقابل، يُجمعون إلى حدّ ما على أنّ اتفاق الطائف يُشبه «الرجل المريض»، أي واقع السلطنة العثمانية عندما حافظ الأوروبيون على ضعفها إلى حين اتفاقهم بشأن «تركتها» مع انتهاء الحرب العالمية الأولى.
تعدّد التشخيصات، أنتج عند كلّ تجمّع أو حركة أو حزب، أوراقه وأفكاره الخاصّة، منها ما هو واقعي وبعضها ما هو أقرب إلى الرفاهية الفكريّة. أطراف تتمسّك بتطبيق اتفاق الطائف بكل مندرجاته وبنوده، وآخرون يذهبون نحو اللامركزية الموسّعة من دون تحديد مداها إذا ما كانت سياسية، مالية أم إدارية. بينما يتفرّد الفدراليون في المقلب الآخر، بإعلان ما يريدونه بشكل واضح وصريح.
تشهد بكركي لا سيّما منذ انتفاضة 17 تشرين، ديناميكية سياسيّة لافتة. مؤتمرات وإطلاق وثائق وتنظيم ندوات بحضورها ورعايتها، آخرها «لقاء الهوية والسيادة» حيث أُعلن انطلاقه من الصرح قبل أشهر ونظّم مؤتمره أمس الأوّل (الخميس) برعاية وحضور البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي. يقترح في وثيقته، انتخاب رئيس للجمهورية من الشعب، إلغاء مذهبية كل من رئاسات الجمهورية ومجلس النواب والحكومة. إنشاء مجلس الشيوخ من دون حصر طائفة رئيسه أو مذهبه بفئة. إلغاء المذهبية في إدارات الدولة كافة، المطالبة بنوع موسّع من اللامركزية الإدارية وإقرار قانون انتخابات نيابية جديد، وحياد لبنان.
هذا الحراك وغيره، تضعه أوساط كنسية على بيّنة من الصرح ضمن إطار الحيويّة الوطنية والمسيحية المناضلة في سبيل سيادة لبنان، والمناهضة لمشروع «محور الممانعة» ووحدة ساحاته. كما لفتت إلى أنّ شخصية الراعي المنفتحة منذ رعايته أبرشية جبيل المارونية وقبلها، تُعزّز جذب المنسجمين مع خطّها، وإن كانت لا تؤيّد كل ما يطرحونه. فَهَمّ بكركي هو إنقاذ لبنان وتطبيق الدستور والولوج في الإصلاحات المطلوبة على قاعدة المناصفة. في المقابل، تأخذ مصادر أخرى على الرّاعي اعتماد سياستين متناقضتين، فيرفع السقف في عظاته وبيانات مجلس المطارنة، ويهادن عبر فتح قنوات حوار مع «حزب الله»، فيما المطلوب من بكركي، الدخول في نقاش جدّي حول مسألة الشراكة وتموضع لبنان، وألا تكتفي بالخطوط العريضة.
يُدقّق عضو تكتلّ «الجمهورية القويّة» النائب ملحم الرياشي في بعض المفاهيم والمصطلحات، فيعتبر أنّ «الهواجس» لا تلتصق بالمسيحيين فقط، بل تطال كل الجماعات التي تُشكّل النسيج اللبناني. وبالتالي يحقّ لها طرح مخاوفها وإشكالياتها، مع الأخذ بالإعتبار مسألتين: حُسن التوقيت وتوفير الإجماع الوطني، كي تسلك مسارات التنفيذ. في السياق، يشدّد الرياشي على أنّ تغيير الصيغة أو تطوير النظام يجب أن ينبثق من صلب اتفاق الطائف، كونه ركيزة أساسية للمسيحيين والمسلمين معاً، وقد حقّق نوعاً من «فدرالية الطوائف» يحتاج إلى بلورة جديدة، مستطرداً أنّه «كتب العديد من المقالات والدراسات عن هذا المشروع وهو رأس حربة داخل القوات في طرح المشروع الفدرالي».
في تحديد الهواجس وترتيب الحلول، يرى أنّ «الحياد الناشط» أو كما يسمّيه «الحياد النمسوي» (الملتزم بالقضايا العربية والإنسانية)، هو الحاجة الملحّة اليوم، لأنّه ينتشل لبنان من صراعات المحاور، ويدحض مبررات وجود سلاح «حزب الله» أو أي سلاح آخر ومعالجته ضمن استراتيجية دفاعية، وحصره بالجيش اللبناني وحده، على أن تتمّ «عسكرة» الشعب اللبناني أسوة بالنموذج السويسري (من الدول المحايدة وأكثرها تسليحاً وأماناً).
أمّا عن مقاربة «القوات اللبنانية» وأين هي في ظلّ هذه المبادرات، يردّد الرياشي قول القديس بولس: «لكلّ شيء وقت». لا يمكنك أن تزرع وقت الحصاد. ولا يمكن أن تحصد وقت الزرع. هَمّ القوّات اليوم هو العمل بلا كللٍ من أجل تحييد لبنان عن الحرب الدائرة في غزّة، لأنّ هذا الخطر الأساسي هو إلى حدّ ما وجوديّ. كما يركّز الحزب على ضخّ دم سياسي جديد في عروق الشباب اللبناني والمسيحي يسدّ نزيف الهجرة القاتل، أضف إلى ذلك ضرورة انتخاب رئيس من دون ابطاء».
أمّا على خطّ «التيار الوطنيّ الحرّ»، فيشير عونيون إلى أنّهم ينظرون بإيجابية إلى هذه الحيوية اللافتة الدائرة في بكركي، «فهي تنمّ عن رفض مسيحيّ عريض للتجاوزات الحاصلة بحقّهم أكان في موضوع التعيينات أم عمل حكومة تصريف الأعمال والتعدّي على الصلاحيات المنوطة حصراً برئاسة الجمهورية وصولاً إلى التشريعات الحاصلة في مجلس النوّاب». لكنّهم يردفون أن هذه التحركات غير منظّمة أو مبرمجة ضمن استراتيجية موحّدة. ويأخذ «التيار» وفق قيادييه على بعض القوى المسيحية الرئيسية أنها لا تُلاقي الإيجابية بالمثل، مذكّرة بأن الجولة التي قام بها رئيسه النائب جبران باسيل على الأطراف السياسية كافة، قاطعها حزبا «القوات» و»الكتائب». يضيفون: «صحيح أننا تقاطعنا حول إسم المرشّح الرئاسي جهاد أزعور، غير أننا «ما عدنا شفنا بعض». وإذا كانت المقاربات حول مسألة سلاح «حزب الله» مختلفة ومتباينة، فهناك مشتركات عدّة كملف النزوح السوري وتأثيره على التركيبة اللبنانية وواقع المسيحيين في الإدارات وضرورة ملء الفراغ الرئاسي، وكيفية مواجهة الهجرة واختلال الميزان الديموغرافي، ألا تستوجب هذه النقاط الجامعة لقاءات وحوارات للخروج بخارطة طريق واحدة؟».
في هذا الإطار، أكدّ قيادي في «التيّار» أن دور بكركي في جَمع الأحزاب والقوى المسيحية حول طاولة مستديرة بات حاجة ملحّة، ونحن نشجّع أي مبادرة من هذا النوع، لا سيّما بعد تهشّم مؤسساتهم العامة والخاصة كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف». أمّا في موضوع الصيغة والنظام، فيشدد على أنّ «البحث يجب أن ينطلق من قاعدة اتفاق الطائف»، لافتاً إلى أنّ الأحزاب المسيحية تلتقي جميعها حول موضوع اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة».
في هذا السياق، يشدّد راعي أبرشية بعلبك دير الأحمر المارونية المطران حنّا رحمة، على أنّ المطلوب اليوم وقبل أي شيء آخر، هو تحييد لبنان عن صراعات المنطقة وعدم انزلاقه في آتون الحروب المشتعلة في الجوار كي لا يسقط فيها. فصوت الكنيسة واضح، وهو الحياد الإيجابي. التعددية الطائفية والتاريخية تحتّم ذلك. القضية اللبنانية هي الأهم. يعود رحمة إلى رحم المشكلة وجذروها، ألا وهي فكرة الإنتماء إلى لبنان دون سواه، كونها الركن الأساسي أو القاعدة الرئيسية التي تبنى عليها أي دولة مهما كان نظامها أو صيغتها.
ويسأل: كيف لأحزاب مثل «حزب الله» و»البعث» و»القومي السوري» وغيرها أن يتواجدوا في دولة لا يعترفون بها، أي تتناقض أيديولوجياتهم وسياساتهم مع فكرة الكيان؟ ويدعو من يريدون «الدولة الإسلامية» أو (دولة مسيحية إذا وُجد من يطالب بها) إلى المجاهرة بذلك وعدم التلطّي خلف الأقنعة، لنعلم ماذا يريدون. فالشراكة تحتّم وضوحاً واعترافاً متبادلاً تجاه بعضنا البعض على قاعدة المناصفة التي كُرّست في اتفاق الطائف الذي لم ينفّذوه لغايات سلطوية واستئثارية. إذا لا يريدون الشراكة والاعتراف بلبنان، فليكن التقسيم. يشجّع المطران كل مبادرة أو طرح، «مجتمعنا غنيّ ومنفتح. لا أحادية في التفكير، هذا ما يميّزنا عن المجتمعات والدول المحيطة بنا أكانت عنصرية أم ديكتاتورية».
في المقابل، لا يُعارض رحمة الطرح الفيدرالي، محذّراً في الوقت ذاته من الجنوح صوب التقسيم. وكشف في الوقت ذاته أنه يدعو لمؤتمر مسيحي شامل برعاية الكنيسة يضمّ كلّ التيارات والتوجهات، يطرح الهواجس، يشخّص الأزمات ويخرج بمشروع وطنيّ واحد يطرحونه على الشركاء، لكن المشكلة وفق رحمة تكمن عند بعض القوى السياسية التي تقترب وتبتعد عن بكركي وفق مصالحها السياسيّة الضيّقة.
لم يعد خافياً على أحد، أن المزاج الشعبي المسيحي يميل نحو اللامركزية الموسعة وبعضهم يفضلّ الفدرالية الواضحة، فعند كلّ أزمة أو تهديد وجوديّ، يطغى هذا الخيار على أحاديث العامة، رغم أنّ العديد منهم لا يعرفون ماهيتها وتطبيقاتها وآلياتها، فيما يناضل النخبويون والمفكّرون وأصحاب الطرح منذ زمنٍ. غير أنّ المشروع يفتقر إلى رافعة سياسية داخلية وخارجية، فلا الأحزاب المسيحية تتبناه بشكل واضح وعلنيّ (إذا كانت مقتنعة به ضمناً) ولا الكنيسة تضعه على طاولة البحث، ولا صدى له في عواصم القرار الدولي والإقليمي حتّى الآن.
يعتبر المحامي نديم البستاني والباحث في مجال حقوق الإنسان والفدرالية، أنّ اللقاءات الدائرة في بكركي تتصف بالإيجابية، لجهة فتح أبوابها للنقاش ومحاورة رعيّتها وطرح هواجس أبنائها ووطنها. لكنه يرى في المقابل، أنّ هذا الحراك غير منظّم ولا يندرج ضمن استراتيجية واحدة واضحة ولا آليات للمتابعة. ويتوقّف عند أوراق تلك المجموعات (أكانت «الهوية والسيادة» أم «تجمّع دولة لبنان الكبير» أمّ «لبنانيون من أجل الكيان» وغيرها) لناحية النظام والإصلاحات التي يقترحونها، فيشير إلى أن تشخصيهم للأزمة يتعارض مع توليفتهم (synthese)، فالأسباب الموجبة التي يستندون إليها يجب أن تؤدّي منهجيّاً إلى الفدرالية، وليس إلى لامركزية إدارية موسّعة، كأنهم يعرفون الداء ويتغافلون عن وصف الدواء المناسب».
وكشف أنه في أحد اللقاءات مع البطريرك الراعي، «طرحنا عليه مشروعنا بشكل واضح ومن دون تدوير الزويا، فكان موقف صاحب الغبطة أنه لا يسير بأي طرح لا يقبله المسلمون». وتمنّى البستاني على بكركي أن تُناقش الفدرالية مع الفدراليين أنفسهم.