كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
على نحو اي زائر دولي يأتي الى لبنان كي يتعرّف الى معضلاته، امضى الموفد الاميركي الخاص عاموس هوكشتين ساعاته في بيروت يتنقل بين فريق وآخر في الموالاة والمعارضة، مسترئسين وناخبين، يسأل ويستفسر ما يعرفه سلفاً. كأنها المرة الاولى له هنا
لا ينظر الداخل اللبناني هذه المرة الى حضور الموفد الاميركي الخاص عاموس هوكشتين على انه خبير شؤون الطاقة المألوف لديهم، بل عضو جديد في سلالة الموفدين الاميركيين الى هذا البلد. ليس حاملاً ملف الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، مقدار إكساب نفسه صورة كثيرين من أسلافه غامروا في خوض المخاض اللبناني واستحقاقاته كروبرت مورفي عام 1958، ودين براون عام 1976، وفيليب حبيب اعوام 1980 – 1983، ومن بعده روبرت ماكفرلين ودونالد رامسفيلد مستكمليْن المهمة نفسها وصولاً الى ريتشارد مورفي عام 1988. ثم قبل هؤلاء ومن بعدهم الكثيرون المتوافدون القليلو التأثير، والاستعاضة عن الموظفين الكبار بالسفراء المقيمين. الاب الاول روبرت ماكلينتوك عام 1957، ثم خلفه ارمان ماير عام 1961، تواصلت بعد ذاك السلسلة الى ما بعد اتفاق الطائف مع جيل جديد منهم، كان اولهم دافيد ساترفيلد ولاحقاً جيفري فيلتمان وليس آخرهم دافيد هيل الواسعي الالمام. بات هوكشتين اقرب ما يكون الى الموفد الدائم، يراكم الملفات المعهودة اليه كما الصداقات مع السياسيين ويجتذب الاهتمام.تحت عنوان تخفيف وطأة التصعيد العسكري في الجنوب على طريق التفاهم على ترتيبات امنية، تعيد الحال الى ما قبل 8 تشرين الاول الفائت في احسن الاحوال، اجتمع بالجميع تقريباً: المعني بما يجري عند الحدود وغير المعني، المؤثر والمتفرج. وخلافاً لما يفعله المفترض انه نظيره في المهمة عندما يحضر الى لبنان، وهو وزير الخارجية الايراني حسين امير عبداللهيان، يدير هوكشتين لعبته على نحو معاكس. يبدأ عبداللهيان جولته في لبنان بلقاء ذي الشأن الاول والوحيد في الغالب وهو الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، من ثم تتوالى الزيارات البروتوكولية الغثة والسمينة مع المسؤولين اللبنانيين. الحصيلة الفعلية تكمن في المقابلة الاولى وما صار الى التفاهم عليه. ما يفعله الموفد الاميركي مطابق لأسلافه، كما للموفد الفرنسي الخاص جان ايف لودريان. كلاهما يكتفيان بالاصغاء الى الافرقاء ويخرجان بالخلاصات والاستنتاجات، وتذوي مهماتهما لدى مغادرتهما. اما الصفقة الجدية فتُبرم مع المرجعية الخارجية ذات الشأن في لبنان: مصر اعوام 1958 و1964، وسوريا اعوام 1976 و1988 و1989…
قبل ان يصل الى بيروت أمس، اضحى معلوماً ان الموفد الاميركي الخاص بات يحمل اكثر من ملف في لبنان، دونما ان تكون متساوية الاولوية والاهمية: امن الحدود اللبنانية – الاسرائيلية وتثبيت الحدود البرية وصولا الى انتخاب الرئيس احدث الملفات الموكلة اليه واقلها اهتماماً في الوقت الحاضر. الا انه يماثل تلك بتعقيداته يتشابك فيها الداخل بالخارج.
على ان تعويم دور اميركي جديد منفصل في لبنان يبعث على بضع ملاحظات:
اولاها، محاولة تمييز ما يضطلع به هوكشتين عن ذاك المعهود الى الدول الخمس مع ان واشنطن عضو فيها. منذ اجتماع سفرائها اخيراً في بيروت راح يتأكد شيئاً فشيئاً اخفاقها في اتفاق اعضائها على قواسم مشتركة تتجاوز العناوين العريضة للمواصفات المستحيلة. الكلام الجديد الدائر عن تكليف هوكشتين ملف الرئاسة اللبنانية اعطى انطباعاً اولياً بانتهاء عمل الدول الخمس وحصره بالاميركيين، في وقت يتحدّث حزب الله في الداخل عن ان شريكه الفعلي في التسوية التي تبدأ في الجنوب وتنتهي في قصر بعبدا هم الاميركيون. وحدهم يملكون كي يعطوا.
ثانيتها، رغم النيات الحسنة التي يحملها هوكشتين في كلامه عن خفض التوتر في الجنوب وانهاء النزاع المسلح بين اسرائيل وحزب الله، ودغدغة المشاعر بعودة سكان جانبي الحدود الى بيوتهم والعيش في امان، ينظر حزب الله الى التصعيد المتواصل جنوباً بمنطق مختلف، ان لم يكن مناقضاً لما يقول به الاميركيون ويعاكس توقعاتهم وحساباتهم: كلا حزب الله واسرائيل يديران الحرب بينهما بميزان دقيق محسوب بأدق تفاصيله. لا تزال قواعد الاشتباك نفسها تحظى بالتزام الطرفيْن بما في ذلك توسّع بعض العمليات العسكرية الى عمق ابعد من جانبي الحدود: صفد في مقابل النبطية واقليم التفاح، وطبريا في مقابل بعلبك، والجولان في مقابل الضاحية الجنوبية. ما يقول به الحزب انه واسرائيل لا يحتاجان الى ذرائع لولوج حرب مفتوحة بينهما عندما يعتزمان. ليست هجمات الاعماق حجة كافية للذهاب الى الحرب، مقدار ما تعكس تمسكاً بقواعد الاشتباك التي احالت التصعيد العسكري بينهما يمتد من خمسة الى سبعة كيلومترات في داخل كل منهما. اما الشق الآخر في المعادلة النافذة هذه فهو: عسكري في مقابل عسكري، كما مدني في مقابل مدني.
ثالثتها، على غرار ما اعتاد الاميركيون ان تسبق تحركهم كاسحة الغام تمثلت بعد الشغور الرئاسي عام 2022 بالدور الفرنسي، وانتقلت العام المنصرم الى الدول الخمس، ها هم الآن بأنفسهم في المعترك. اسطع دليل على حضور مستجدّ في الداخل اللبناني الفارق الملحوظ بين الورقتين الاميركية والفرنسية في معالجة التوتر الحدودي. بينما بدت الثانية مربكة ملتسبة في تناولها ترتيبات امنية تفتقر الى الدقة في تعيين نقاط الخلاف دونما الخوض في تفاصيلها محيلة اياها الى اللجنة الثلاثية في الناقورة، تحدثت الاولى عن عناوين محددة هي مكمن الخلاف اللبناني -ـ الاسرائيلي كالـB1 والنقاط الـ13 المختلف عليها وصولاً الى الغجر وكفرشوبا. قلل المسؤولون اللبنانيون كما حزب الله من اهمية ورقة باريس، كي يقاربوا بجدية ورقة واشنطن. تلتقي الورقتان على بند عريض ليس مدار التباس هو تنفيذ القرار 1701 الذي لم يعد، بالنسبة الى حزب الله على الاقل، على نحو تطبيقه منذ عام 2006 افضل الخيارات للحؤول دون حرب مع اسرائيل مندلعة في الوقت الحاضر.