جاء في “الراي” الكويتية:
عَمَّقَ «الدخانُ الأسودُ» الذي تلبّد في سماءِ محاولات «الرمَقِ الأخير» لبلوغ هدنة رمضان في غزة، القلقَ حيال أفق الوضع على جبهة لبنان التي كان «سؤال المليون» الذي يحْكمها قبل تشظّي مفاوضات القاهرة أمس: هل سيشملها وقف النار الموقت في غزة، واستطراداً هل سيكون الاتفاق الإطار الذي تعمل عليه واشنطن لحلّ مستدامٍ لها ينطلق من «هدنةِ الجنوب» قابلاً للحياة ما دام في «نهائياته» المشفّرة يضمر فصلاً لها عن جبهة غزة؟
وفيما كانت العبوتان الرئيسيتان «التقنيتان» في طريق هدنة رمضان التي باتت تحتاج إلى معجزة لتحصل قبل بدء الشهر الفضيل تتمحوران حول إصرار حركة «حماس» على وقف دائم لإطلاق النار وعودة النازحين والانسحاب من القطاع وتوفير احتياجات الشعب الفلسطيني، مقابل تَمَسُّك تل ابيب بالإفراج عن كل أَسْراها خلال هدنة الأسابيع الـ 6 ومن دون قيد أو شرط، فإنّ «المسرح الخلفي والخفي» لتعثُّر الأمتار الأخيرة من المفاوضات بدا مدجّجاً باعتباراتٍ يُخشى معها أن يكون ثمة تقاطُعاً غير مباشر بين الأطراف المعنيين بها على اعتبار أن أثمانها أكبر من أن تُحتمل، ما يشي بأن الأيام المقبلة قد تكون مفتوحة على تصعيدٍ لن «يعلو معه صوتُ فوق صوت» المعركة الأشرس التي يُرجَّح أن يكون جنوب لبنان أحد ملاعب نارها اللاهبة وربما بـ «أعماق» جديدة كاسرة للقواعد «المألوفة» منذ 8 اكتوبر.
ولم يكن عابراً في هذا السياق أن يرفْع «محور الممانعة» بلسان أكثر من طرفٍ فيه عناوين اعتُبرت بمثابة إعلانِ «عدم مصلحةٍ في هدنة بأي ثمن»، وبينها الكلام عن رغبة اسرائيل في «توظيف» الهدنة في اتجاهين: الأوّل تهدئة الانتقادات الدولية للجرائم المروّعة التي ترتكبها، وفي الوقت نفسه لجْم التهشيم الذي تتعرّض له صورة واشنطن في دعمها المطلق لحليفتها وتأثير ذلك تالياً على الرئيس جو بايدن في السِباق الرئاسي الى البيت الأبيض بعدما اتشّح بـ «رمادية» قد تكون «مميتة» لحظوظه وفق ما عبّر عنه حجم «المترددين» الذين صوّتوا بـ «غير ملتزم» في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي.
والاتجاه الثاني التوظيفي للهدنة هو أن تلتقط اسرائيل أنفاسها وتعود لتدّك غزة بعد وقف النار الموقت وتكمل ما بدأته.
في المقابل وعلى وقع إعلان بنيامين نتنياهو أمس «ان الجيش الإسرائيلي سيواصل العمل ضد حماس في جميع أنحاء قطاع غزة بما فيها آخِر معاقلها رفح»، كبرت علامات الاستفهام حيال مدى رغبة رئيس الوزراء الاسرائيلي في منْح بايدن، الذي تزداد «الصِدامات» معه، ما يساعده على العودة إلى البيت الأبيض على حساب دونالد ترمب الذي بدأ يكشف عن مواقفه إزاء الحرب مع حماس بإعلانه أنه «يدعم الحرب التي تشنّها إسرائيل في قطاع غزة».
وفي الإطار نفسه يدخل عامل أن تل أبيب تكيّفت في الأشهر الخمسة الماضية كما مجتمعها مع «مرحلة الحرب» وبات أي تَراجُع عن الضغط المتدحرج بالنار، رغم ارتداداته الاقتصادية والمالية الكبيرة، يُقاس بالمعيار الأساسي الذي انطلقت على أساسه «المعركة الوجودية» على قاعدة «نكون أو لا نكون» بعد «طوفان الأقصى» بآثاره التي حفرت في الوجدان الإسرائيلي ولن يكون محوها ممكناً، وفق تل ابيب، إلا بضمان عدم قدرة حماس وغيرها على تكرار 7 تشرين الأول، وهو ما عبّر عنه نتنياهو أمس بتشديده على «أننا نخوض هذه الحرب من أجل ضمان بقائنا، وهناك ضغوط دولية متزايدة علينا وعلى الجيش وهذا ما يدفعنا إلى توحيد الصف، ومَن يطلب منا عدم دخول رفح كمَن يطلب منا إنهاء الحرب وهذا لن يحدث».
وفي حين بدت هذه العوامل بمثابة «الحمولة الزائدة» الكفيلة إغراق المساعي التي «تنخرها» أساساً الصعوبات التقنية لتحقيق هدنة تبدأ مع رمضان – ما لم يحصل اختراق بالغ الصعوبة في الدقيقة الأخيرة – فإن المخاوف ازدادت من اندفاعة نار أكثر توحُشاً من جانب اسرائيل: في غزة في محاولةٍ لليّ أخير لذراع «حماس» وفرْض شروطها بحيث تأخذ في السياسة ما لم تحققه بعد بالكامل عبر الميدان، بالتوازي مع رفْع الضغط بالنار على جبهة جنوب لبنان لـ «جلْب» الجميع إلى المسودّة التي رسم إطارَها الموفد آموس هوكشتاين على قاعدة «وقف العمليات العدائية، وتعزيز انتشار الجيش اللبناني جنوباً، ومعالجة الجانب الظاهر من الحضور العسكري لحزب الله في أرض القرار 1701 وصولاً لبتّ النزاع على النقاط البرية الخلافية على طول الخط الأزرق ومع ترْك مسألة مزارع شبعا المحتلة لبحث آخر على قاعدة وللاتفاق تتمة».
وعلى خطورة هذا المفترق الذي يقف أمامه لبنان، الذي تدخل جبهته المتحرّكة جنوباً (اليوم) الشهر السادس من«المشاغَلة» فيما يَمْضي عَدّادُ الفراغ الرئاسي في تسجيل أشهر جديدة من الشغور بلغت في 1 مارس رقم 16 و«الحبل على الجرار»، استوقف أوساطاً سياسية أن ثمة مَن لايزال في الداخل يَجد «ترف» اللعب في ملفاتٍ – مفاتيح وإضاعة المزيد من الفرص لسدّ بعضٍ من الفجوات في «التايتنيك» اللبنانية التي تلاطم منذ 4 أعوام انهياراً مالياً لم يهدأ عصفه وإذ بها تسير على جمْر حرب غزة… حافية القدمين.
وفيما برز أمس اللقاءُ الذي عُقد لسفراء مجموعة الخمس حول لبنان (تضم الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر وقطر) في السفارة القطرية، في إطار استكمال الجهود في ما خص إنهاء الشغور الرئاسي وهو ما تعتبر هذه الدول أنه بات أكثر إلحاحاً في ضوء ما ينتظر المنطقة، وعلى«جبهتها الأمامية» لبنان سواء انفراجاً أو انفجاراً، فإن توقيتَ هذا الاجتماع غداة زيارة هوكشتاين اعتُبر بمثابة رسالة من المجموعة بأن المساعي الدولية في الملف الرئاسي ما زالت«خُماسية الدفْع» خلافاً لما أشيع عن أن واشنطن، ومن خلال ما سُرّب عن أن الموفد الأميركي ناقش الاستحقاق الرئاسي في بيروت، أرادت القول«الأمر لي» في هذا الملف.
كما لاحظت الأوساط في الإطار نفسه أن الاجتماع يأتي على وقع ترنّح مبادرة تكتل«الاعتدال الوطني»- وبـ«نيران» فريق الممانعة – التي قيل إنها تحظى بعدم ممانعةٍ أقلّه من«الخماسية» وتقوم على التداعي للقاءِ تشاوُر بين النواب وممثلي الكتل في البرلمان، ومحاولةٍ«غير مُلْزمة» لغربلة الأسماء الرئاسية، مع تعهُّد مسبق من الحاضرين بأن يؤمّنوا نصابَ جلسة انتخابٍ مفتوحة بدورات متتالية ولا ينسحبوا منها قبل تصاعد الدخان الأبيض وانتخاب رئيس، فتُرفع حصيلة هذا التشاور الى الرئيس نبيه بري الذي يكون أمام خيار اضطراري بفتْح المجلس متى كان عدد النواب أو ممثليهم الذين شاركوا في جلسة التشاور الوحيدة ناهز الثلثين.
وفي موازاة ذلك، خرقت المشهد الداخلي زيارةُ وفد من كتلة نواب«حزب الله»برئاسة النائب محمد رعد للرئيس السابق ميشال عون في ما بدا محاولةً لاحتواء الافتراق غير المسبوق بين الحزب و«التيار الوطني الحر» (يترأسه صهر عون النائب جبران باسيل) منذ أن أعلن عون شخصياً رفْض «وحدة الساحات» على خلفية فتْح الحزب جبهة الجنوب واعتباره أن الحرب الاستباقية قد تستدرج الخطر أكثر على لبنان، قبل أن يكمل باسيل وقادة في التيار على«الموجة نفسها» وإن مع «فرملةٍ» تارة ورفْعٍ لمنسوب الاعتراض متعدُّد البُعد طوراً، ما عَكَسَ أن علاقة الطرفين بلغت، وبعد خلافاتٍ تراكمت على خلفية تصادُم أولويات في ملفات داخلية وليس آخرها الرئاسة، «طلاقاً مع وقف الإعلان الرسمي» ودفناً لتفاهم مار مخايل الذي جمعهما منذ 2006.
وفيما أعلن رعد بعد لقاء عون «أن الاتصال القائم مع فخامة الرئيس هو خط دائم ومستمر لم ينقطع في السابق ولن ينقطع أبداً، وهو خط يبعث الطمأنينة في نفوس اللبنانيين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم»، موضحاً «أن الزيارة كانت فرصة لاطلاع فخامة الرئيس على الأوضاع الميدانية الدقيقة والموضوعية بعيداً عما يتم من تراشقٍ من هنا وهناك»، ومؤكداً«اننا ابدينا ما يمكن أن يعزز الوحدة الوطنية في مواجهة تحدي العدو الصهيوني (…) وأيضاً في وضعنا اللبناني نصرّ على التخاطب المسؤول بين كل الفئات والمعنيين»، كان بارزاً ما نُقل عن أوساط في حزب الله عبّرت عن «ارتياح الحزب ورئيس الجمهورية السابق لنتائج اللقاء الذي وُصف بأنه إيجابي جداً وجرى خلاله التأكيد على تفاهم مار مخايل باعتباره يشكل مناعة للوضع اللبناني».
وأشارت الأوساط إلى أن موضوع الحرب في الجنوب كان العنوان الأساسي للقاء وقد استفسر الرئيس عون عن أمور تتعلق بهذا الموضوع وسمع مباشرة إجابات أبدى ارتياحه لها، كاشفة «أن موضوع رئاسة الجمهورية جرى التطرق له من باب الفصل بينه وبين ما يجري في الجنوب».
في المقابل حرصت أوساط في «التيار الحر» على التقليل من أهمية وفاعلية اللقاء. ورغم إبلاغها أن وفد «حزب الله» شرح للعماد عون الوضع في الجنوب وأن الحرب هي وقائية مع تأكيد عدم الرغبة بتوسعة رقعتها لكن في الوقت عينه لا يَترك الإسرائيلي فرصة للتدمير والأذية إلا ويستخدمها، وأن «الرئيس عون شرح من جهته سبب رفضه مبدأ (وحدة الساحات) وأنه لا يمكن تحميل لبنان حرباً في ظل غياب إجماع عربي»، فهي أكّدت «أن الكلام الإستراتيجي وطنياً في العلاقة بين التيار والحزب يُبحث مع الرئيس عون، إنما البحث في السياسة وكيفية تطوير هذه العلاقة ومناقشة الحلول لا تكون الّا مع رئيس التيار النائب جبران باسيل».
وإذ ذكّرت بمآخذ التيار على «حزب الله» و«إخلالاته» من موضوع مكافحة الفساد، وصولاً إلى تغطيته حالياً قرارات الحكومة المستقيلة التي يعتبر التيار أنه لا يحق لها تولي صلاحيات رئيس الجمهورية في ما يُعتبر «ضرباً للشراكة الوطنية والدستور»، ختمت الأوساط «هذه معركة تثبيت الشراكة، ولا تُبحث إلا مع رئيس التيار ولا يمكن أن تنقضي بزيارة وفد».