كتب عبدالله عبد الصمد في “نداء الوطن”:
آلاف الموظفين المثبّتين في ملاكات بلديات لبنان، تبرّأ منهم القطاع العام، ولم يستقبلهم القطاع الخاص يوماً. فحُرِموا من تقديمات الأول ومن حقوق الثاني. بينهم عناصر شرطة مطالبون بتحقيق الأمن في نطاقاتهم البلدية، لكنهم لا يُحسبون على رجال الأمن، ولا يُعدّون بالمقابل من الموظفين المدنيين، فيُجبرون على ممارسة الأمن بالتراضي في بعض الأحيان تجنّباً للموت، أو للسجن في أفضل الأحوال. أما عددهم، فأصبح عصيّاً على الإحتساب الدقيق مع زملائهم الإداريين، حتى من قبل وزارة الداخلية والبلديات، بعد الإستقالات العديدة التي سبَّبتها الأزمة المالية.
لا يحصل «موظفو البلديات واتحادات البلديات» العالقون بين القطاعين على أي زيادة ما لم يُشر إقرارها إليهم صراحة. هذا من جهة الرواتب والأجور، أما التقديمات والمساعدات، فهي مشمولة بالقطاع الخاص قانوناً، ومطبّقة وفق القواعد التي تحكم القطاع العام واقعياً، مع تفاوت كبير بين بلدية وأخرى. هذا وقد شمل قانون الضمان الاجتماعي موظفي البلديات بالتقديمات أسوة بموظفي الإدارات المستقلّة وموظفي القطاع الخاص. لكنّ الفقرة (د) من المادة التاسعة منه بقيت مجمّدة بانتظار المراسيم التطبيقية. في المقابل لحظت الأنظمة الداخلية للبلديات بنداً خاصاً يتعلّق بتطبيق نظام الموظفين العام على كل من لم يرد في النظام الخاص. فأعطيت المنح المدرسية والمساعدات المرضية وغيرها وفقاً لما تحدّده تعاونية موظفي الدولة. كلّ ذلك حدا بالهيئة التأسيسية لرابطة موظفي البلديات واتحادات البلديات في لبنان الى المطالبة بإنشاء صندوق خاص، منبثق من الصندوق البلديّ المستقلّ، تحت وصاية وزارة المالية، يقتطع من المبالغ العائدة للبلديات والاتحادات رواتب ومستحقات الموظفين كاملة، بما فيها المنح المدرسية وتوقيفات تعويضات الصرف، وغيرها، قبل توزيعها.
وفقاً لما صرَّح به لـ»نداء الوطن» عضو الهيئة عبدالهادي مزهر، الذي أكَّد أن موظفي البلديات يفتقدون اليوم الى المساواة في ما بينهم، فتجد موظفاً يحصل على كامل حقوقه في بلدية، بينما يُحرم زميله في بلدية أخرى من أبسطها. يعود سبب ذلك الى عاملين أساسيين، الأول: عدم اعتماد نظام موحّد في جميع البلديات، ففي حين يلحظ أحد الأنظمة أحقيّة حصول الموظف على منح مدرسية، على سبيل المثال، يحرم نظام في بلدية أخرى موظفيها من هذا الحقّ. الثاني: تفاوت المداخيل بين بلدية وأخرى، فالبلديات الكبيرة أو الميسورة تستطيع دفع حقوق موظفيها كاملة، بينما تقف بعض البلديات الأخرى عاجزة عن تسديد حقوق الموظفين، خصوصاً الزيادات التي أقرّت بعد الأزمة المالية.
«يعاني قطاع البلديات اللبناني من ثلاثة مواطن ضعف رئيسية، عدد البلديات كبير جداً بالنسبة الى حجمه… يعاني عدد كبير من البلديات في لبنان من ضائقة مادية… فجوة كبيرة بين الصلاحيات التي يمنحها القانون للبلديات والخدمات التي تقدّمها في الواقع». وفقاً لما ورد على الموقع الرسمي للبنك الدولي (التحديث: 3 أكتوبر 2019).
هذا في العام 2019. أما بعد ذلك التاريخ فقد ازداد الوضع سوءاً وتدحرجت كرة الانهيار آخذة في التضخّم شهراً بعد شهر، حتى فاقت قدرة تحمّلِ بلدياتٍ كثيرة، ما انعكس سلباً على قدرة دفع رواتب الموظفين. النائب زياد حوّاط، رئيس بلدية جبيل السابق، رفع الصوت عبر «نداء الوطن» قائلاً: «لقد قيَّدوا العمل البلدي. رموا على البلديات أثقالاً لا يمكنها احتمالها. ففي حين كان يجب المعادلة بين الواردات والنفقات، قيّدوا الواردات وزادوا النفقات. فمن أين ستدفع البلديات رواتب موظفيها والمداخيل شبه معدومة؟». وأضاف، «الأمور كما هي، ذاهبة الى تدمير آخر المعاقل. البلديات هي آخر الإدارات التي ما زالت مستمرّة رغم الأزمات». بتعبير مشابه، يسأل جان الأسمر، رئيس بلديّة الحازمية، «هل هناك نيّة لإقفال البلديات؟ وهي المرجع الوحيد اليوم أمام المواطن. مع العلم أن البلديّة لا تشكّل أي عبء على الدولة، فهي تؤمّن نفقاتها بنفسها». ويتابع، أن بلدية الحازمية دفعت لموظفيها كلّ الزيادات التي أقرّها مجلس الوزراء في السابق، وهي قادرة مادياً على دفع الزيادة الحالية، لكن المشكلة بالروتين الإداري. فعلى سبيل المثال: عقد مجلس البلدية جلسة في بداية شهر كانون الثاني 2024، واتّخذ قرارات مهمّة، لكن مركز المحافظة كان مقفلاً، ولم تتمكن البلدية من تسجيل المعاملات المتعلّقة بالجلسة إلا في الأول من آذار الحالي.
في المقابل، يؤكد الدكتور غازي الشعّار، رئيس اتحاد بلديات الغرب الأعلى والشحّار، أن بلديات الاتحاد تعاني جميعها من ضائقة ماديّة، وقد لا تتمكّن من دفع الزيادات التي أقرّتها الحكومة مؤخراً، ومثلها بلديات كثيرة. ثم صرّح جازماً أن الاتحاد لن يتمكّن من دفع هذه الزيادات في الوضع الراهن.
يقول أحد عناصر الشرطة البلدية (طلب عدم ذكر اسمه)، إنه ما زال يتقاضى من بلديته راتباً شهرياً يعادل خمسين دولاراً أميركياً. يترتّب عليه بالمقابل ما يقارب الثلاثين دولاراً في الشهر بدل اشتراك في المولّد الذي تملكه وتديره البلدية. أما العشرون المتبقّية، فهي لا تكفي لتسديد رسوم المياه والكهرباء والقيمة التأجيرية. ليتابع بحسرة: «نوقّع على سجلّ الرواتب، لكننا لا نقبض الراتب، بحيث يذهب مباشرة بدل خدمات ورسوم». أما المصاريف اليومية، فيؤمّنها من عمل إضافي بعد دوامه وفي أيام الإجازة.
الشرطي ذاته، التزم بالاعتصام والتوقّف عن العمل، حين دعت إليه الهيئة التأسيسية لرابطة موظفي البلديات واتحادات البلديات، ثم عاد والتزم بقرار تعليقه، لكن النتيجة لم تتغيَّر. وسيستمرّ بتقاضي المبلغ ذاته حتى أجل غير مسمّى، بحسب قوله. عن ذلك يقول مزهر، لم يكن الاعتصام في مراكز العمل مؤثراً بصورة كبيرة، خصوصاً أن الهيئة لم تصبح رسمية بعد. فمنذ انطلاقتها في العام 2020، لم نتمكن من الحصول على علم وخبر بإنشائها، رغم المحاولات العديدة والجهود الكبيرة التي نبذلها في هذا الصدد. يعود ذلك إما لعدم رغبة سلطات الوصاية بإنشائها، أو لتعقيدات إدارية بيروقراطية. لكن بظلّ هذه الظروف لا يمكن الاستمرار إلا بتبنّي القول القائل: «خذ المتيسّر وطالب بالمتعسّر». بحسب قوله.
يرى عبدالهادي مزهر أن إحدى أبرز المشكلات التي تحول دون استفادة الموظف من الزيادات التي تقرّها الحكومة، هي ارتباط صرف الرواتب بالاعتمادات التي يحدّدها المجلس البلدي. وقد لا يعمد الأخير الى نقل اعتمادات إضافية من احتياطي الموازنة إلا إذا كانت مالية البلدية تحتمل ذلك فعلياً، لذلك يُحرم بعض الموظفين من الحصول على الزيادات في الوقت الراهن. إضافة الى عدم المساواة بالاستفادة من بدل صفائح المحروقات التي أُقرَّت، إذ ورد في الموازنة ما حرفيته: «أما في حال توافر اعتمادات ضمن موازناتها تسمح بدفع التعويض المذكور الى العاملين لديها، فيمكن حينها للمؤسسات العامة والبلديات واتحاداتها أن تُعطي هؤلاء من موازناتها التعويض المؤقت الإضافي المشار إليه في المادة الأولى (بدل عدد صفائح محروقات بحسب الفئات)».
تعتبر الرسوم البلدية، من رسوم قيمة تأجيرية وغيرها، المصدر الرئيسي لتمويل صناديق البلديات. وقد عمد العديد منها الى زيادة تلك الرسوم بنسبة 1000 بالمئة، أي بزيادة عشرة أضعاف باتفاق ضمني في ما بينها، وبعيداً عمّا يتيحه القانون. وقد غُضّ النظر عن هذه المخالفة القانونية حفاظاً على استمرارية العمل البلدي. ولم تتأثر نسبة تسديد الرسوم سلباً بهذا الإجراء. حتى أنها بلغت في بلدية الحازمية 73% عن العام 2023، قبل أن تقرّ الزيادات قانونياً في موازنة العام 2024 بنسب تفاوتت بين 10 و15 و20 ضعفاً.
ثم صدر عن المجلس الدستوري القرار رقم 1/2024 بتاريخ 19/2/2024 الذي علّق بموجبه مفعول المادة 36 من قانون الموازنة وهي المادة التي ترعى هذه الزيادات على الرسوم، مع مواد أخرى، لحين البتّ بالمراجعة. في خضمّ هذه المراجعات، «ستستمرّ البلديات بتقاضي ما كانت حدّدته قبل إقرار الموازنة من المكلّفين، لكنّ المشكلة أنهم توقّفوا عن التسديد لحين البتّ النهائي بالموضوع». بحسب ما صرّح به رئيس بلدية الحازمية.
ليعود رئيس اتحاد بلديات الغرب الأعلى والشحّار، ويؤكد أن هذه النسب غير كافية لتمكين البلديات من القيام بواجباتها المطلوبة، خصوصاً تجاه موظفيها، لذلك يجب أن تكون الزيادة على رسوم القيمة التأجيرية ثلاثين ضعفاً بالحدّ الأدنى لتتناسب جزئياً مع ارتفاع سعر صرف الدولار. عندها تُحدّد الاعتمادات على أساس المداخيل، فترتفع حكماً في باب النفقات.
يجب على الحكومة التعاطي مع البلديات بمسؤولية. هذا ما يصرّ عليه جان الأسمر. فإن كانت الدولة غير قادرة على التحسين، عليها ألا تساهم بشلّ القطاع، وأن تترك البلديات القادرة على إنجاز ما هو مطلوب منها، أن تنجزه دون تعقيدات.
ثم يوضح قائلاً: «في العام الماضي تلقّت البلدية تعميماً يحدّد أجرة العامل اليومية بـ415000، في حين يتقاضى العامل الأجنبي أضعاف ذلك، فلم تعد البلدية تستطيع تشغيل أي عامل، في حين أنها قادرة مادياً ولوجستياً على تطوير نطاقها البلدي والاعتناء به».
ويتابع: «حتى عناصر الشرطة البلدية تأثروا بممارسات الدولة، وباتوا يخافون من تأدية واجباتهم بالشكل الصحيح حتى لا يتمّ توقيفهم. في المقابل ترفض القوى الأمنية استلام الموقوفين والمجرمين منهم بحجّة أن لا مكان لهم في النظارات، ولا يمكنهم تأمين طعامهم». أزمات البلديات إلى ازدياد لذا يحضّ زياد حوّاط الحكومة، أولاً، على إجراء الانتخابات البلدية في موعدها» وهو المطلب الأساس لاستقامة العمل البلدي، لأن عدم إجرائها في موعدها يُعدّ جريمة مباشرة تطال كلّ مواطن لبناني. وشدّد ثانياً على ضرورة « إقرار اللامركزية الموسّعة. ثالثاً، تطوير قانون البلديات وتوحيد الأنظمة الداخلية. رابعاً، انتظام العمل الرسمي. خامساً، إعادة الاستقرار لاستعادة الاستثمار». من دون هذه الشروط الخمسة لن يستقيم العمل البلدي في لبنان ولن يتحقّق العدل بين الموظفين.