كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
بعد بلوغ مبادرة «كتلة الاعتدال الوطني» الرئاسية حائطاً مسدوداً بفعل تغلّب الشكليات على المضمون، بدا أن هذه المبادرة وضعت في غرفة الانعاش من جديد مع تجدد الاتصالات على خط رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان قطع وعداً لنواب «الاعتدال» بالسير بمبادرتهم لإنهاء الشغور الرئاسي في قصر بعبدا الذي دخل عامه الثاني من خلال رسم خريطة طريق وآلية تبدأ بتداعي النواب للتشاور ليوم واحد في ساحة النجمة ومحاولة التوافق على رئيس وإلا الطلب من الرئيس بري الدعوة إلى جلسة مفتوحة للانتخاب بدورات متتالية والذهاب بأكثر من إسم إلى هذه الجلسة مع تعهد 86 نائباً على الأقل بعدم تطيير النصاب.
وقد حظيت مبادرة «الاعتدال» بدعم البطريركية المارونية التي عبّرت عن موقفها في بيان مجلس المطارنة الموارنة الأخير الذي «سجّل ارتياحاً مبدئياً إلى التحرك الخيّر الذي يقوم به نواب وكتل نيابة وأشخاص ذوو إرادة حسنة، آملين أن يعقد مجلس النواب جلسات مفتوحة متتالية حتى انتخاب رئيس جديد للدولة» كما حظيت هذه المبادرة بدعم فوري غير متوقع من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي سبق أن رفض دعوات بري إلى حوار لسبعة أيام ودعا إلى الالتزام بما ينص عليه الدستور لجهة الدعوة إلى جلسة مفتوحة لانتخاب الرئيس. وقد تكون موافقة جعجع على المبادرة خلافاً للتوقعات فاجأت الثنائي الشيعي الذي اعتبر أن التفسيرات التي أعطيت لتحرك «الاعتدال» لا علاقة لها بجوهر المبادرة وبما تم الاتفاق عليه مع أصحابها.
أكثر من ذلك، كان الرئيس بري واضحاً باستغرابه فكرة «تداعي النواب إلى التلاقي في المجلس» ووصفها «بالطرح العجيب الغريب الذي يعكس نوعاً من الاستخفاف والخفة على مستوى السلوك السياسي، وكأن هؤلاء النواب المتداعين ستجمعهم المصادفة في بهو المجلس، ثم يقرّرون بعد هذا اللقاء القدري أن يتداولوا في الاستحقاق الرئاسي». أما الوعد بعقد جلسة مفتوحة بدورات متتالية فبدأ التراجع عنه عندما قال رئيس المجلس إنه سيقفل محضر الجلسة في حال لم نتمكن بدورة أولى وثانية وثالثة ورابعة من انتخاب رئيس، مشيراً إلى «أن الإبقاء على الجلسة مفتوحة يشكل مخاطرة كبيرة لأنه يعطل الدور التشريعي للمجلس النيابي».
على هذا الأساس، بدت مبادرة «الاعتدال» وكأنها دخلت في حقل ألغام خصوصاً أن حزب الله استمهل لتقديم جوابه عليها، مبدياً «الحرص على التوصل إلى مخرج وفاقي للأزمة الرئاسية» كما ورد في بيان كتلة «الوفاء للمقاومة» ليُبنى على الشيء مقتضاه، مع العلم أنه سبق لحزب الله أن بعث برسائل أن لا بحث في الشأن الرئاسي قبل انتهاء الحرب على غزة. ويبدو أن الحزب ينتظر مآل هذه الحرب لإبداء المرونة أو التشدد في الاستحقاق الرئاسي، وتظهر التجارب أن حزب الله كلما شعر بأزمة كان ينفتح على الأفرقاء وينسج معهم الخيوط والتفاهمات على غرار إقامة «التحالف الرباعي» مع قوى 14 آذار 2005 أو «تفاهم مار مخايل» مع التيار الوطني الحر عام 2006 وكلما شعر بفائض القوة كان يتشدّد رئاسياً وحكومياً وقضائياً كي ينال مُراده. كما يبدو أن حزب الله متوجّس من نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية التي تظهر تقدم الرئيس دونالد ترامب على منافسه الرئيس الحالي جو بايدن، الأمر الذي سيشكل عامل ضغط على إيران ويعزّز فرص التشدد الأمريكي في المنطقة لصالح تل أبيب.
من هنا يلاحظ البعض أجواء التخبط التي تعبّر عنها قيادات حزب الله، فمن ناحية يخرج أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم ليعيد المطالبة برئيس «يحمي ظهر المقاومة» متمسكاً بترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية لعدم تكرار تجربة الرئيس ميشال سليمان، ومن ناحية أخرى يزور وفد كتلة «الوفاء للمقاومة» الرئيس السابق ميشال عون في الرابية بعد انقطاع طويل في محاولة لترميم العلاقة المتأزمة بين الحزب والتيار بعد المواقف المنتقدة لفتح الحزب جبهة الجنوب مساندة لغزة، وعاد رئيس الكتلة النائب محمد رعد للحديث عن «الشراكة الحقيقية» التي اتهم رئيس التيار حليفه السابق «بالسماح بضربها في مجلس الوزراء ظناً منهم أنهم يستطيعون تطويعنا للقبول بالرئيس الذي يريدون».
وفي هذه المرحلة الدقيقة تضغط اللجنة الخماسية الممثلة لكل من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقطر ومصر لتمرير الاستحقاق الرئاسي في لبنان وفصله عن حرب غزة. وكان لافتاً الاجتماع الأخير الذي عقده سفراء المجموعة الخماسية في السفارة القطرية بعد حملة تشويش على عملها وحديث عن خلافات بين أعضائها واستئثار الولايات المتحدة بالمهمة من خلال تحرك الموفد الأمريكي آموس هوكشتاين ومحاولة المقايضة بين وقف إطلاق النار في الجنوب وإطلاق يد حزب الله في الشأن الداخلي.
وقد أكد الاجتماع في السفارة القطرية أن الملف الرئاسي لا يزال في عهدة اللجنة الخماسية وأن هذه اللجنة تدعم كل مبادرة تؤدي إلى إنهاء الشغور وخصوصاً الآن مبادرة «الاعتدال» التي تعني في النهاية الذهاب إلى خيار ثالث. وكان لافتاً اللقاء الذي دعا إليه النائب ميشال ضاهر في الفرزل مع السفيرة الأمريكية ليزا جونسون وضم نواباً من عدد من الكتل النيابية إطلعوا من عضو «كتلة الاعتدال» سجيع عطية على طبيعة المبادرة في حضور أحد الأسماء المرشحة للرئاسة كخيار ثالث النائب نعمة افرام. وقد شارك في اللقاء النواب: ميشال معوض، آلان عون، الياس حنكش، الياس اسطفان، ميشال دويهي، مارك ضو، وهاكوب ترزيان.
كل هذه الوقائع ستكون محور متابعة في الأيام المقبلة لتبيان مصير مبادرة نواب «الاعتدال» الذين كانوا يصوّتون في جلسات الانتخاب لصالح «لبنان الجديد» ولاسيما في آخر جلسة في 12 حزيران التي فرزت المجلس النيابي بين 59 نائباً مؤيداً لخيار جهاد أزعور و51 مؤيداً لخيار سليمان فرنجية. فأين سيصطف نواب هذه الكتلة في أي جلسة انتخابية جديدة؟ وهل يمكن لهؤلاء النواب وأكثريتهم من الطائفة السنية أن يخرجوا عن توجهات المجموعة الخماسية التي تضم في عضويتها السعودية؟ وما طبيعة الزيارة التي قام بها المعاون السياسي للرئيس بري النائب علي حسن خليل في الدوحة؟ وهل يمكن لفريق الممانعة تحمل مسؤولية الاستمرار بعرقلة الانتخابات الرئاسية؟