أحمد الأيوبي في “نداء الوطن”:
يدور نقاش واسع في طرابلس حول كيفية تجاوز ما وصلت إليه أوضاع بلديتها بعد مسارٍ طويل من الصراعات والتخبّط والفوضى والفشل في إدارة ثاني بلديات لبنان أهميةً وصلاحياتٍ وموقعاً ودوراً. وتتّجه الأفكار نحو ضرورة تغيير نمط انتخاب المجلس البلدي للمدينة على أساس استبعاد التدخلات السياسية، واسترجاع العائلات والمجتمع الأهلي بمؤسساته العريقة والفاعلة أدوارَهم من القوى السياسية التي خاضت تجارب مريرة حطّمت إمكانات البلدية وتركت مبناها محترِقاً وخدماتها شبه غائبة، بسبب الانهيار من جهة والخلافات والصراعات بين الأعضاء من جهة ثانية.
مرّت بلدية طرابلس بمراحل متعاقبة، جرّبت خلالها الأحزاب والقوى السياسية فرض سيطرتها عليها باعتبارها موقعاً خدماتياً من الدرجة الأولى ولأنّ صلاحيات رئيسها القانونية ومجلسها واسعة بعكس بلدية بيروت المقيّدة بسلطة المحافظ، كما أنّها مصدر توظيف مباشر وغير مباشر من خلال المشاريع المُمَوَّلة من الجهات المانحة.
منذ ولاية السلطان عبد الحميد
يمتدّ تاريخ بلدية طرابلس عميقاً منذ ولاية السلطان العثماني عبد الحميد، الذي أعلن الدستور لأول مرة في في تاريخ السلطنة العثمانية، عام 1877، فصدر قانون البلديات العثماني، الذي شمل طرابلس وخصها ببلدية، لها رئيس ومجلس بلدي، يعنى بشؤونها. وبجميع أنواع الرعاية والإشراف على نظافة الشوارع فيها وصيانتها وإصلاح الأعطال في المجارير والبرك والصنابير، التي تخصص مياهها للشرب… وكان أوّل رئيس للبلدية فؤاد الذوق تولّى مهامّه قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى، ظل يمارس عمله حتى العام 1920، وتأسيس الكيان اللبناني، وإعلان دولة لبنان الكبير كما يذكر الدكتور قصيّ الحسين في دراسة له تحمل عنوان «بلدية طرابلس تاريخياً».
بداية الاحتلال الفرنسي عُيِّنَ خير الدين عدرة أول رئيس بلدية لطرابلس خلفه هاشم ذوق عام 1928 ثمّ مصطفى عزالدين في العام 1929 تلاه هاشم سلطان عام 1930 تلاه في العام 1931 عثمان سلطان، وفي سنة 1949، أسندت رئاسة البلدية لسميح عكاري ثم لم تلبث أن تولاها محافظ المدينة نور الدين الرفاعي سنة 1952.
توالت الصراعات على مركز رئاسة البلدية في ما بعد، فقد أعيد تعيين مصطفى كرامي مديراً للبلدية وسرعان ما جرت إنتخابات بلدية فاز بها راشد سلطان، ثم انتخب أكرم عويضة رئيساً لها العام 1955 وأعيد انتخابه للمرة الثانية في العام 1959 وانتخب محمد مسقاوي رئيساً للبلدية في العام 1961 ثم خلفه عبد الحميد عويضة في العام 1963، وفي العام 1973 أعيد انتخاب محمد مسقاوي رئيساً لبلدية طرابلس.
وصولاً إلى رياض يمق
أما ولاية عشير الداية، فقد امتدت من العام 1979 حتى العام 1991 ليخلفه العميد الدكتور سامي منقارة فالعميد سمير الشعراني والمهندس رشيد جمالي، فالمهندس عامر الرافعي، والمهندس أحمد قمر الدين، ثم المهندس نادر الغزال فالدكتور رياض يمق، الذي شهدت ولايته صراعاً أخرجه بضعة أشهر ثمّ عاد الآن لرئاسة البلدية بموجب قرار من مجلس شورى الدولة.
كان هذا الاستعراض التاريخيّ ضرورياً للتذكير بعراقة المدينة وعمق وجود المؤسسة البلدية فيها وهي التي كانت قبل الحرب نموذجاً للإدارة الناجحة، حيث تكفي استعادة صور الفيحاء حينها لتعطي الفارق الشاسع بين ما كان وما هو قائمٌ الآن.
كانت بلدية طرابلس حتى تاريخ انتهاء ولاية العميد سمير الشعراني في العام 1998تحت هيمنة الرئيسين الراحلين الشهيد رشيد كرامي وعمر كرامي وفي ظلّ الاحتلال السوري، وانتهت هذه المرحلة بفوز المهندس رشيد الجمالي في أيار 2004، ولتبدأ بعدها مرحلةُ المجالس المتصدِّعة والمتصارِعة والعاجزة نتيجة انقساماتها السياسية والشخصية على مدار السنوات حتى اليوم.إستنتاجات أساسية
في خلاصة الوضع البلدي هناك استنتاجات أساسية أهمّها:
ــ أنّ وصول مجالس بلدية ائتلافية نتيجة الاتفاقات السياسية له نتيجة واحدة هي انعكاس الانقسامات داخل المجلس وتعطيله والإضرار بمصالح أهل المدينة.
ــ أنّ الأفضل هو فوز لائحة واحدة بالأغلبية لتكون قادرة على اتخاذ القرار ولتكون مسؤولة بشكل واضح عن أعمالها.
ــ أنّ تجربة الفوز السياسي بالأغلبية كما حصل عام 2016 عندما فازت اللائحة المدعومة من النائب أشرف ريفي في وجه ائتلاف عريض من أحزاب السلطة وحلفائها، لم تكن كافية لتحقيق النجاح في العمل البلدي لأنّ وحدة المجلس تعرّضت للضغوط بالإضافة إلى العراقيل الكبرى من السلطة المركزية التي كان لـ»تيار المستقبل» دور كبير فيها.
لم ينجح العمل البلدي في طرابلس منذ عقود، ويُعتبَرُ مشروع «الإرث الثقافي» أحد النماذج الفاقعة والبشعة التي جرى إفشالُها نتيجة الصراعات السياسية المنعكسة على المجلس البلدي وداخله، بعد أن كان يُفتَرَضُ أن يكون أحد أهمّ عوامل تفعيل السياحة في المدينة، كما يضرب الإهمال الحدائق التي باتت نهب الأمر الواقع، فحديقة المنار خسرت تجهيزاتها وباتت خاوية على عروشها كما هو حال حديقة الملك فهد (المعرض)، وأغلب حدائق المدينة تغيب عنها الصيانة والإدارة.
لا يُنتظَرُ من عودة الدكتور رياض يمق الكثير بعد عودته لرئاسة المجلس البلدي لأنّ الخلاف داخل المجلس كبير وهناك بعض الأعضاء يهدِّدون بالاستقالة، ويبذل مفتي طرابلس الشيخ محمد إمام والنواب أشرف ريفي وإيهاب مطر وفيصل كرامي والوزير محمد مرتضى مساعي لسحب خيار الاستقالة من التداول، والذهاب نحو التعاون على إدارة هذه المرحلة لاستعادة بعض التوازن وتحقيق الحدّ الأدنى من الفعالية في عمل أجهزة البلدية.أسباب الفشل
الدكتور يمق قال لـ»نداء الوطن» إنّ هناك أسباباً كثيرة للفشل السائد في المجالس البلدية منها غياب الأغلبية المنسِجمة وخروج المعارضة عن الأصول القانونية والأخلاقية وغياب الناخب الآدمي عن ساحة التصويت وتركها للتحكّم السياسي، معتبراً أنّه سلك سكة القانون الذي أثبت براءته من ملفات الفساد في القضاء وفي وزارة الداخلية وكذلك أعاد له الحق في الرئاسة من خلال مجلس شورى الدولة، مشيراً إلى أنّ «يدنا كبلدية ممدودة للتعاون مع كل الغيورين على المدينة وأهلها، وخاصة في رمضان الخير والرحمة، أدعو الجميع في طرابلس إلى التكافل والتضامن والتعاون، لإيجاد حلول تسد رمق الجياع والمحتاجين، كما ادعو إلى التسامح والتراحم لتعم البركة والخيرات».
مرجِعٌ مستقِلٌّ في طرابلس دعا إلى اتخاذ العِبَرِ من كلّ ما مرّت به المجالس البلدية وحثّ العائلات الطرابلسية والمجتمع الأهلي إلى المبادرة واستنهاض قدراته استعداداً للاستحقاق البلدي المقبل بغضّ النظر عن توقيته، بناء على فهم القانون والإدارة البلدية، مشدِّداً على ضرورة أن تتقدّم العائلات بأفضل أبنائها كفاءة والتصاقاً بالشأن البلدي لا أن يكون التحرّك على أساس العصبيات المرفوضة، لوضع حدٍّ للعبث السياسي في المدينة وبلديتها، ويبدو أنّ هذا التفكير يتخمّر في أوساط عائلات طرابلس ومجتمعها، فهل يُتَرجَمُ بلوائح في مدن الفيحاء استعداداً للاستحقاق المنتظَر؟