كتب كميل أبو سليمان في “نداء الوطن”:
نُشِرت مؤخّراً سلسلة من المقالات والتعليقات حول المخاطر التي تواجهها الدولة ومصرف لبنان في ما يتعلّق بسندات اليوروبوندز التي أصدرها لبنان. وترتبط هذه المخاطر بمساهمة الدولة المحتملة في تغطية جزء من خسائر المودعين والحجز على أموال مصرف لبنان واحتياطات الذهب الموجودة في الولايات المتحدة.
بصفتي محامياً مؤهلاً في نيويورك وخبيراً في مالية الدول وإعادة الهيكلة (مثّلت ثلاثة مصارف مركزية في إطار محاولات حجز وأكثر من ثماني دول في إصدار سندات اليوروبوندز)، أضع في هذا المقال نظرتي الخاصة حول هذه القضايا. إن الوضع القانوني معقّد ومتقلّب وليس من المتاح إعطاء ضمانات بشأن الإجراءات التي يمكن اتّخاذها من قبل الدائنين ضد الدولة اللبنانية ومصرف لبنان.
يتعاظم احتمال رفع دعاوى من قبل حاملي السندات منذ توقّف لبنان عن سداد التزاماته بتاريخ 9 آذار 2020. لحاملي اليوروبوندز الحق بمطالبة الدولة اللبنانية بتسديد دينها بموجب دعاوى قد يرفعونها في الولايات المتحدة الأميركية وعملاً بشروط سندات اليوروبوندز التي أصدرتها الدولة اللبنانية، فإن قانون نيويورك هو القانون الواجب تطبيقه، ومحاكم مدينة نيويورك والمحاكم الفيدرالية الموجودة في مدينة نيويورك هي صاحبة الإختصاص القضائي للبتّ في النزاعات المتعلّقة باليوروبوندز.
إن شروط سندات اليوروبوندز حدّدت لحملة السندات فترة زمنية قدرها خمس سنوات للمطالبة بالفوائد وعشر سنوات للمطالبة بأصل الدين منذ تاريخ التوقّف عن الدفع. لذلك، من المرجّح أن يتم رفع دعاوى ضد الدولة قبل 9 آذار 2025 لأنه، بعد هذا التاريخ، سيبدأ حاملو السندات بفقدان حقّهم بالفائدة، إلا في حال تمّت إعادة هيكلة اليوروبوندز قبل هذا التاريخ.
في حال صدور أحكام لصالح حاملي اليوروبوندز، تتحوّل صفتهم من «دائن» الى «مستفيد من حكم قضائي». وهذه الأحكام لا تخضع لـ»بنود العمل الجماعي» ( collective action clauses) الواردة في سندات اليوروبوندز والتي تتيح للدولة إجبار أقلية حاملي السندات على قبول إعادة الهيكلة في حال تمكّنت الدولة من نيل موافقة حاملي 75% من سندات اليوروبوندز في كل سلسلة (على أساس التصويت لكل سلسلة على حدة). وفي حال صدور أحكام قضائية، يتوجّب حينئذٍ على الدولة أن تتفاوض مباشرة مع أصحاب هذه الأحكام. وتمنح هذه الأحكام لأصحابها حق التنفيذ على أصول الدولة في الخارج (في حال توافرها)، باستثناء الأصول التي تتمتع بحصانة كالسفارات مثلاً.
ما لم تتنازل دولة ما عن حصانتها بالنسبة الى الحجوز الاحتياطية، وهذا ما لم يفعله لبنان، فلا يستطيع الدائنون إلقاء الحجز الإحتياطي على أصول الدولة قبل صدور أحكام قابلة للتنفيذ.
هل يمكن أن تؤدّي أي مساهمة للدولة بتغطية خسائر المودعين إلى مخاطر إضافية بالنسبة لليوروبوندز؟
على ضوء صدور قرار مجلس شورى الدولة في شباط 2024 حول خطة الحكومة، تساءل البعض عمّا إذا كانت أي مساهمة للدولة بتغطية خسائر المودعين من شأنها أن تؤدي الى مخاطر إضافية بالنسبة الى اليوروبوندز. ليس للدولة أي علاقة تعاقدية مع المودعين أو مسؤولية مباشرة لتعويضهم؛ فعلاقة المودعين التعاقدية هي مع المصارف، التي بدورها لها علاقة تعاقدية وتنظيمية مع مصرف لبنان.
وبالتالي، لا يتوجّب تحويل ديون المودعين على المصارف الى ديون على الدولة. ولكن، بصفتها المالك الوحيد لمصرف لبنان، يمكن للدولة إعادة رسملة المصرف. تلحظ مشاريع الخطط الحكومية المتتالية والاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي، مساهمة الدولة بمبلغ 2.5 مليار دولار أميركي لإعادة رسملة مصرف لبنان. وإذا تم الاتفاق على ذلك مع الأطراف المعنية، يمكن للدولة زيادة هذه المساهمة – بشكل محدود – ما يتيح حينئذ لمصرف لبنان زيادة مشاركته في التعويض للمودعين. ولا أعتقد أن مثل هذا الإجراء يشكل خرقاً لشروط سندات اليوروبوندز.
هل يمكن التنفيذ على أصول مصرف لبنان لتغطية الديون المستحقة على الدولة؟
في الولايات المتحدة الأميركية، تتمتّع أصول أي مصرف مركزي أجنبي أو سلطة نقدية أجنبية مملوكة لحسابها الخاص، بالحصانة من الحجز والتنفيذ بحسب قانون الحصانات السيادية الأجنبية الأميركي الصادر في العام 1976. ومن الصعب (ولكن ليس من المستحيل) تجاوز الدائنين لهذا المبدأ القانوني، وخاصة بالنسبة إلى الأصول الموجودة في الولايات المتحدة. ثمة نقاط ضعف متعلقة بسلوك مصرف لبنان بعد الأزمة ولكن لا ينبغي المبالغة في تقدير هذه المخاطر ويمكن تخفيفها من خلال استكمال إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز قبل صدور أحكام ضد الدولة.
بعض التوصيات والفرص المُتاحة
على ضوء ما سبق، أقترح اتّخاذ الإجراءات التالية في أقرب وقت ممكن:
(أ) يتوجّب على الدولة شراء سندات اليوروبوندز في السوق الثانوية، مع مراعاة القوانين الخاصة. حالياً، إن أسعار سندات اليوروبوندز متدنّية جداً (7 سنتات بتاريخ 15 آذار 2024) ومن المرجح أن تتم إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز بسعر أعلى من سعر السوق الحالي، نظراً لأن أي إعادة هيكلة تتطلب موافقة 75% من حاملي السندات في كل سلسلة. إضافة إلى ذلك، يشمل سعر السندات في السوق الثانوية الفوائد المستحقة، بينما من المحتمل أن الفوائد المستحقة قد تحمل تكلفة إضافية في أي إعادة هيكلة. وأخيراً، إذا تم شراء سندات اليوروبوندز من أطراف أجنبية، فذلك سيقلّص من نسبتها، الأمر الذي قد يسهل إعادة الهيكلة.
(ب) يتعيّن تنفيذ فوري للإجراءات المسبقة المطلوبة من صندوق النقد الدولي. حتى إذا كان من غير الممكن أو المستحسن إصدار قوانين قبل انتخاب رئيس للجمهورية، فإن الاتفاق على صيغتها النهائية مع الصندوق من شأنه أن يعيد بعض المصداقية للبنان على أمل أن تؤدي هذه الخطوة الى تحسين بعض شروط برنامج صندوق النقد الدولي. كفانا تردداً وشعبوية! وهذا لا يشكل بديلاً عن المحاسبة واسترداد الأموال المختلسة والمحوّلة إلى الخارج بعد تشرين الأول 2019.
(ت) يجب المباشرة بمفاوضات فورية مع حاملي سندات اليوروبوندز. ومن المرجّح أن يصرّ ممثلو الحاملين على إتمام برنامج مع صندوق النقد الدولي ليثقوا بأن لبنان سيكون قادراً على خدمة ديونه بعد إعادة هيكلتها. ويمكن للبنان استخدام حدود المديونية المفروضة من الصندوق لتحسين التفاوض مع الحاملين.
(ث) يتوجب تعزيز استقلالية مصرف لبنان تجاه الحكومة في سياق الإجراءات الأخيرة التي اتّخذها الحاكم بالإنابة.
إن تعامل لبنان مع الأزمة المالية منذ العام 2019 قد يكون الأسوأ على الإطلاق. وتمكّنت دول أخرى من الخروج من أزماتها في أقل من ثلاث سنوات، مثل اليونان. في حين أن في لبنان مضى أكثر من أربع سنوات وأُهدرت عشرات مليارات الدولارات من أموال المودعين من دون إحراز أي تقدم ملموس.
لا بدّ من تغيير المقاربة؛ إذ إن الوقت ليس لصالح لبنان.
لا يشكل هذا المقال مطالعة قانونية وهو يعبّر عن رأيي الشخصي ولا يعكس رأي مكتبي Dechert؛ لقد شاركت كمحام في إصدارات اليوروبوندز ولكن لا أمثّل حالياً أي فريق. لم أتملك في أي وقت كان أي سندات يوروبوندز أو أدوات مالية مرتبطة بها.