كتب سعيد غريّب في “نداء الوطن”:
هل صحيح أنّ سماء لبنان ستكون ملبّدة بالغيوم السوداء في عزّ الربيع الآتي، وأنّ فترة محدودية الحرب على لبنان شارفت على نهايتها؟ حتى الآن لا شيء من هذا القبيل يبدو ملموساً، فتوازن الرعب كفيل حتى الساعة بمنع الانفجار الكبير، على أن يكون للبنان ما يريد ضمن المعقول إنفاذاً للقرار 1701، ووفق تقاطع مصالح كثيرة تريد له ذلك. وإذا سار كلّ شيء وفق ما هو مرسوم، سيتمكّن لبنان، بفضل «قبّة باط» دوليّة، من اقتناص الفرصة والشروع في انتخاب رئيس للجمهورية من مرشّحي الخيار الثالث.
الّا أنّ لبنان، المعروف تاريخيّاً بأنّه يفوّت الفرص التاريخيّة، لن يكون بمنأى عمّا يُرسم للمنطقة، في حال استمرّ في التكاسل واللامبالاة واللهو والاسراف في الاهتمام بالتفاصيل والثرثرة وهدر الوقت، وفي المراهقة السياسية والانفاق العشوائي بغير حساب، لأنّ هذا كلّه سينعكس بالتأكيد على مستقبل هذا الوطن وعلى عزم أبنائه على النهوض وتحقيق الذات، حتّى لو تمّ انتخاب رئيس جديد وتأليف حكومة جديدة.
إنّ لبنان اليوم بات مهدّداً بخسارة تفوّقه على غير صعيد وقد تجلّى بفقدان إحساس العرب بالحاجة إليه وخصوصاً الخليجيين منهم. فهو لم يعد وحده بلد العلم والمعرفة، ولم يعد مركزاً عالمياً للتجارة والاقتصاد والمال، كما كان عليه في النصف الثاني من القرن الماضي، ولم يعد وحده خضرة الشرق وجماله، فقد بدأت الصحراء نفسها ترتدي ألوان لبنان. فماذا بقي للبنان يتفرّد به ويتفوّق؟
إنّها هذه الصيغة الفذّة، صيغة التلاقي والعيش الواحد والتفاعل والإثراء المتبادل بين الحضارات والأديان، وقد رحنا أيضاً نعبث بها عبث الأطفال! إنّ حقوق الطوائف يجب أن تُصان، ولكن ماذا عن حقوق لبنان؟ نحن نفهم حقوق الطوائف واسطة لتعميق الثقة والتضامن بين العائلات الروحيّة التي تشكّل مجتمعة هذا الوطن، فهل بهذه الرؤية المستقبليّة ستكون نظرتنا الى التشكيلات الادارية وغيرها؟
إنّ مشكلة لبنان الأولى بنظر الحكماء هي في حيرته أمام المستقبل، فالكلّ في ضياع ولا أحد يعرف من أين تبدأ طريق الخلاص وكيف! الكلّ غاضب وناقم: الحاكم والرعيّة والمسؤول وغير المسؤول الوزير والنائب والمدير والمواطن العادي الكبير والصغير العامل ورب العمل. هل بقي أحد لا يشكو ويتذمّر من الفساد الذي نخر الجميع، كباراً وصغاراً؟ يسعون إليه بخجل حيناً وبفجور أحياناً أخرى، من دون التأكّد من بلوغه كما يشتهون، وهل تريدون ثقافة أكثر تدميراً من ثقافة السعي الى الفساد، وهل تذكرون متى بدأت وكيف؟
لماذا نرتجل الحكم في لبنان على هذه الصورة؟ الأجوبة تتعدد، ولو كانت التركيبة السياسيّة في لبنان هي غير هذه التركيبة لأمكن تجاوز الحالة المتخلّفة بقدر كبير، ولبنان، من هذا القبيل، سلسلة أقلّيّات سياسيّة لا تنتهي من الأفراد والكتل والأحزاب تتناقض وتتصارع. ولأنّ الحكم لا يستقرّ إلّا بإشراف أكبر عدد ممكن من هذه الأقليّات، فقد كان التفاؤل دائماً قسريّاً أو اضطراريّاً وبالصدفة في معظم الأحيان. إنّ الكذب والرياء والانبطاح والكلام الخبيث والتواصل من تحت الطاولات ممارسات لن تبني دولة ولا وطناً على المدى البعيد.
إستخدموا أيّها السادة النوّاب والمسؤولون عبارات واضحة في خطاباتكم، وتجرّأوا على قول ما تخشون قوله علانيّة: نريد لبنان واحداً، جيشاً واحداً، سلاحاً واحداً، دولة واحدة يتساوى فيها الجميع ليبقى الأبناء المقيمون، ويعود الأبناء المهاجرون، ويبقى لبنان. يجب أن نبدأ ونعثر في البداية على منطلق ينقذنا من الحلقة المفرغة، والمهمّ أن يكون هناك بداية وبادئون. إنّ لبنان أمام فرصة أخيرة والّا سيكون مصيره التقسيم أو التقاسم أو الذوبان.