كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
رغم إخفاقها في تحقيق أهدافها وتضارب عناوينها وعدم توحيد رؤيتها، غير أنّ لانتفاضة 17 تشرين، مآثر إيجابية، أبرزها أنّها «قصقصت» عراضات و»عنتريات» ومواكب السياسيين لفترة من الزمن. حرمت هؤلاء شهوة «التفشيخ» بأزناد مرافقيهم، حتّى تطهّرت طرقاتنا العامة والداخلية من هذا التلوّث السلطويّ الشوفينيّ المريض. لكن لوزير الاقتصاد و»الفتوّة» في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، مناعة كبيرة مضادة لأيّ سلوكيات تنمّ عن تواضع ورصانة يجب التحلّي بها من قبل أيّ مسؤول، لا سيّما في بلدٍ يُقدّم أسوأ نماذج عن الحكّام في العالم أجمع (من دون مبالغة). آخر حلقات سلسلة «سلام بوند»، هو دخوله مع «زِلمِه» المسلّحين والملثّمين من الباب العريض على بائع خضار متقدّم في العمر، ما أدّى إلى سقوطه أرضاً، ظنّاً منه أنّهم عصابة! ولكن «بعض الظنّ» ليس إثماً. وهنا تكمن خطيئة «العمّ» الكبرى، أيعقل أنّ الأخير قد خمّن وتصوّر أن أولئك هم عصابة! بأي حقّ يتخيّل ذلك في بلد يخلو منها تماماً! لو كان الحدث في أزقّة كولومبيا أو فنزويلا أو نيجيريا، لتفهّمنا توهّمه. أيعقل أن صاحب الدكّان الصغير لم يكتشف أنّ «الفاتح» هو معالي الوزير، الطامح والحالم في أن يكون رئيساً للحكومة. حينها، سيتعرّف الرجل المسنّ ومعه العالم بأسره إلى رئيس أكبر كتيبة مدجّجة بالمرافقين والحرّاس الشخصيين، ولا غرابة ولا عجب بأن يدخله كتاب «غينيس» صفحاته الذهبية. وربّما قد نشاهده وفرقته في عرض تلفزيوني مباشر، يداهمون المتاجر بإنزال عبر الحِبال (Rappel).
وبغض النظر عن نفي مكتب الوزير للخبر المتداول، معتبرا أن «لا أساس له من الصحة لا من قريب ولا من بعيد»، فالثابت هو أن الاستعراض الذي ينتهجه سلام في جولاته، يشير إلى ذهنية خريجة الأنظمة العسكراتية والتوتاليتارية.
الوزير لا «يمزح»، المسائل عنده تُحلّ بـ»جرّة قلم»، فأثارت تصريحاته خلال مناشدته إعادة بناء صوامع القمح التي دمّرها انفجار مرفأ بيروت، والتي ذكر فيها أن الكويت تستطيع القيام بذلك «بشخطة قلم»، استياءً واسعاً كاد يوتّر العلاقات بين البلدين.
يريد سلام فرض مهابته على المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار. فكلّ مواطن معه في مراده ونواياه السلامية. لكن فاته أنّ الهيبة لا تكون بسرقة الأضواء والاستعراضات، ولا بـ»نزلة» الوزير شخصياً على الأرض. لأنّ عمليات فولكلورية كهذهه قد تُنبّه التجّار سريعاً إلى حركته وتكشف عنصر المباغتة والمفاجأة لدى الآخرين. فيما المطلوب، هو تشكيل «جيش» (القوّة الناعمة) من المراقبين يدخلون المحال الكبيرة والصغيرة بسلاسة، من دون لفت انتباه، كأنهم زبائن يراقبون ويحرّرون محاضر الضبط ويكتبون تقاريرهم لرفعها إلى الجهات المعنية.
وإذا كانت الحجّة مرتبطة بعجز ميزانية الوزارة في التعاقد مع مياومين (بدل حشوهم في إدارات لا حركة ولا بركة)، فيمكن أن تلجأ إلى فتح باب التطويع لدى الشباب والطلّاب الذين يتمنّون تأدية خدمة مدنية، في شأن يُعنى به ويعاني منه كلّ إنسان. فكم من جمعيات أهلية قد تلبّي هذا الواجب وأن تستحصل في المقابل، على دعم وتمويل من مؤسسات ومنظمات غير حكومية ناشطة في مجال مكافحة الفساد، تُخفّف عبء التوظيف أو التعاقد عن كاهل الحكومة والإدارات العاجزة والمفلسة! أوليس الأجدى قبل كل هذا، أن تفرض السلطة وقارها على ذاتها أوّلاً؟ أن تُعاقب ولو لمرّة واحدة مسؤولاً كبيراً فيها؟ أليس اشتباه بائع الخضار للوهلة الأولى، بأنّ هؤلاء المدجّجين هم عصابة وليسوا حماية رسمية، يختصر واقع الدولة المستباحة بالمسلّحين والخارجين عن القانون والمعتدين على سلطتها وحقّها الحصري بامتلاكها وحدها السلاح أو ما يُعرف بالمصطلح السياسي «العنف الشرعي»؟ تجدر الإشارة إلى أنّ «اقتحام» سلام المسلّح لأسواق الخضار ليس جديداً. سبق له أن قام بجولات مماثلة (إلى جانب زميله وزير الزراعة عبّاس الحاج حسن)، في سوق خضار بيروت، محاطاً بعناصر أمنية، كأنّ تجّار الخضار والفاكهة قد أعدّوا معركتهم الكبرى والنهائية ضدّ الوزير. وعلّق أحدهم آنذاك على «الدخلة الهوليوودية» قائلاً، إنّها «ليلة القبض على البقدونس».