كتب منير الربيع في “المدن”:
ينقسم لبنان بين صورتين. صورة اللجنة الخماسية التي تسعى بين اللبنانيين للتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية، وإعادة تشكيل السلطة. وصورة الاجتماعات التي يعقدها مسؤولو وقادة محور الممانعة لمواكبة مسار الحرب على غزة، والتنسيق في كيفية استمرار جبهة الإسناد والدعم لها. صورتان تشيران إلى حقيقة الوضع اللبناني الذي يتأرجح بين الدولة واللادولة، بطريقة في غاية الغرابة. ففي الوقت الذي يجول فيه سفراء الدول الخمس على القيادات السياسية والروحية، للبحث في ملفات سياسية داخلية، يشهد لبنان انعقاد اجتماعات بين المجموعات المسلحة الموالية لإيران تتصل بالبحث في حسابات إقليمية.
استحقاقات الداخل والحدود
ما يبحثه السفراء الخمسة، وفق مواقف صادرة عنهم وعن مسؤولين لبنانيين آخرين، هو فصل المسارين السياسي والمواجهة في الجنوب عن بعضهما البعض. وهو ما يبدو غاية في الصعوبة. فالسفراء يطرحون فكرة إعادة إحياء المؤسسات وسعي لبنان إلى إنجاز إصلاحات سياسية واقتصادية وإبعاده عن مخاطر الحرب الإقليمية أو الانزلاق إلى اتساع المواجهة مع اسرائيل، ما سيؤدي إلى تدميره وزيادة منسوب انهياره، في حال اتسعت وتطورت.
في المقابل، الصورة الأخرى تنم عن البحث في خوض المواجهة ومواكبة معركة غزة بوصفها معركة عن كل المنطقة. يبدو ذلك مشابهاً تماماً لما كان عليه الحال بالنسبة إلى سوريا منذ سنوات، والتي تحولت منذ العام 2011 إلى ساحة للاقتتال. وكان يومها تصريح أمين عام حزب الله الشهير، حين قال: “من أراد أن يقاتلنا فليذهب إلى سوريا”.
صيغ للحوار
لا يبدو من مسار الخماسية أنه قادر على تحقيق خروقات، نظراً لحسابات متضاربة ومتعددة. أولاً، الحسابات المختلفة لدى القوى الداخلية في لبنان. إذ أن جهات من الطرفين وعلى المقلبين، تراهن على مسار الحرب ونتائجها. البعض ينتظر خروج حزب الله منتصراً لتكريس انتصاره في السياسة. والبعض الآخر ينتظر لهذه الحرب أن تفرض قواعد جديدة يمكنه من خلالها استعادة التوازن السياسي، بشكل يمنع الحزب من تكريس ما يريده رئاسياً وسياسياً. وما بين التوجهين، يبلغ الانقسام مداه، في ظل رفض الأفرقاء التحدث مع بعضهم البعض من خلال رفض الحوار. علماً أن هناك صيغاً متعددة لهذا الحوار يمكن أن تكون ملائمة، خصوصاً في حال الاتفاق على برنامج عمل لهذا الحوار، بغض النظر عن من سيترأسه، لأن الأهم يبقى في المضمون، وهو الاتجاه إلى حوار، وفي حال عدم الاتفاق على رئيس، فليتم النزول إلى المجلس وفتح الجلسات، لانتخاب أكثر من مرشح، بشرط عدم تعطيل النصاب من قبل أي من الطرفين. أما بحال لجأ طرف إلى تعطيل النصاب لأكثر من مرة وبشكل منع كلياً إنجاز العملية الإنتخابية، فحينها يتم تحميله المسؤولية، وليفكر الآخرون بالصيغ التي يريدونها، بدلاً من استباق ذلك، بالإشارات المتعددة حول عدم الرضوخ لما يريد أن يفرضه الحزب، وتقديم طروحات حول الطلاق والانفصال أو الذهاب إلى حلّ الدولتين.
ثانياً، لا يبدو حتى الآن أن الخرق ممكن من قبل الخماسية، بسبب ما يقال عن تضارب في وجهات النظر بين أطرافها، وعدم الاتفاق على رؤية موحدة حول كيفية إنجاز الاستحقاق، ووسط قناعة موضوعية وضمنية في أن الاستحقاق الرئاسي وكل الاستحقاقات السياسية الأخرى مؤجلة إلى ما بعد الحرب على غزة. وبالتالي، أصبح الملفان مرتبطين ببعضهما البعض. وهذا لا بد أن يقود إلى اعادة رسم ملامح لتوازنات جديدة على صعيد العلاقة بين القوى الدولية والإقليمية المعنية بلبنان.
من المتوسط إلى الأحمر
أمام هذا الانسداد تتواصل المواجهات في الجنوب، بين تصعيد حيناً وتراجع أحياناً، لكن ذلك يبقي لبنان ساحة مفتوحة بالمعنى السياسي والعسكري، وقد تحول أيضاً إلى قاعدة انطلاق التوجيهات السياسية للعمليات التي يقوم بها المحور من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن مزارع شبعا وغيرها من القرى الجنوبية إلى رفح. فإلى جانب الاجتماع الذي عقد بين نصرالله وقائد فيلق القدس اسماعيل قاآني، والاجتماع الذي جمع الحوثيين وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في بيروت، تشير المعلومات إلى انعقاد اجتماع بين كل الفصائل الموالية لإيران، ضمن غرفة العمليات العسكرية المشتركة، للبحث في كيفية إدارة المعركة بحال أصر الإسرائيليون على اجتياح رفح، وكيفية تصعيد الضربات لمنع ذلك. هي خلاصة اجتماع أبلغت نتائجه إلى المعنيين، ووصلت أصداؤه إلى واشنطن وتل أبيب، حول ضرورة الإحجام عن الدخول إلى رفح تحت راية التهديد بتوسيع العمليات.
ينطوي انقسام المشهد اللبناني بين صورتين على خطورة ستكون آثارها وتداعياتها بعيدة المدى، وسط استمرار الصراع بين أخذ الدولة إلى اللادولة، أم في إعادة اللادولة إلى الدولة، فتتحول الدولة كلها إلى جزء من خط الدفاع عن المشروع الأوسع. وما بينهما وجهة نظر أخرى تعتبر أن مثل هذه المشاريع الموازية للدولة ومؤسساتها، غالباً ما يكون مقتلها أو تضعضعها أو تراجع قوتها هو في دخول تلك “المشاريع” إلى صلب الدولة والمؤسسات، لأنها عندما تكون خارجها يكون فعلها وتأثيرها أقوى. في المقابل، فإن أخذ الدولة بجريرة مشروع اللادولة سيؤدي إلى القضاء على ما تبقى من مؤسسات ومن ركائز.
ولكن الأكيد أنه لا يمكن للبنان الاستمرار طويلاً في حالة التأرجح بين حالة الحرب واللاحرب. الدولة واللادولة، لا بد لأحدهما أن يحسم على حساب الطرف الآخر. هذا الحسم حتماً أصبح مرتبطاً بنتائج الحرب على غزة ومساراتها، وبما سينجم عنها من مفاوضات دولية وإقليمية يمكن اتضاح نتائجها وفق الأفرقاء الذين سيكونون مشاركين على الطاولة.