كتب عبدالله عبد الصمد في “نداء الوطن”:
«التعليم المنزلي هو ذلك التعليم الذي يمتلك فيه الآباء (مع الأبناء) زمام الأمور كاملة… والذي يمكن أن يُمارَس في أي مكان غير المدرسة النظامية». هكذا عرّف الدكتور مجدي هلال التعليم المنزلي في كتابه «دليل التعليم المنزلي». أسرة كمال خيرالله المؤلفة من أبوين وثلاثة أبناء، كانت لها تجربة ناجحة، مع الـhomescooling، رغم التحديات العديدة التي واجهتها، أهمها عدم قانونية هذا النوع من التعليم في لبنان، وعدم وجود أي تنظيم رسمي له. وهاجسها الحقيقي أن ذلك قد يحرم الأبناء (أعمارهم 7 و11 و16 سنة) من معادلة شهاداتهم في وزارة التربية والتعليم العالي إذا بقي الوضع على ما هو عليه.
يقول خيرالله لـ»نداء الوطن» إنه لا يمكن اعتبار هذه التجربة ثورة في وجه نظام التعليم الحالي، ولا هذا هو الهدف. إنما هي مبادرة فردية، طريقة مختلفة للتعليم، اعتمدها وزوجته لتقديم الأفضل لأبنائهما، مستنيرَين ببعض التجارب الناجحة في الدول الغربية.
لكنه في الوقت نفسه لا يجد التعليم المدرسي مثالياً بشكله الحالي في لبنان. فالمناهج ما زالت قديمة، تسير بنظام عمره مئات السنين، وهي بحاجة الى تطوير وتحديث. كما أن ساعات الدراسة طويلة ومرهقة للطالب. وعدد التلاميذ غالباً ما يكون كبيراً في الصفوف.
في المقابل، يمكن للتعليم المنزلي أن يوفّر وقتاً أطول للطفل (أو للمراهق) للاستمتاع بالنشاطات وممارسة الهوايات والانخراط في المجتمع، بدل أن يجلس لثماني ساعات في الصف، ثم عدد آخر من ساعات الدراسة في المنزل لإتمام الفروض وحفظ الدروس. ومن خلال تركيزهم، كأسرة، على الموسيقى والرياضة، ينخرط أبناؤهم في مجموعات، ضمن الفئات العمرية ذاتها، ما يتيح لهم فرصاً أطول للقاء والتواصل، تفوق الوقت المخصّص للراحة في المدارس، حيث لا يمكن للتلميذ أن يتفاعل مع محيطه إلا في وقت الاستراحة التي لا تزيد عن ساعة متقطّعة في أفضل الأحوال. لذلك، يقول مقتنعاً إن التعليم المنزلي يتيح للأبناء وقتاً أطول، ومساحة كبرى للتعرّف على العالم.
شروط نجاح التعليم المنزلي
قبل تفكير الأهل بإخراج أبنائهم عن مسار التعليم النظامي، أو اتخاذ القرار بعدم دخوله أصلاً، عليهم التحقّق من توفر عدّة عوامل لتأمين نجاح المسار الجديد. تؤكد تجربة أسرة خيرالله، أن نجاح التعليم المنزلي مرتبط بعوامل عديدة، أهمها التالي: أولاً، ثقافة الأهل وقدرتهم على متابعة أبنائهم بمهنية عالية حتى مرحلة معينة، يمكن بعدها للطالب الحصول على المعلومات اللازمة ومتابعة الدروس بنفسه.
ثانياً، الوقت الكافي من أحد الأبوين لمتابعة المسار التعليمي للأبناء. إذ لا يمكن اعتماد التعليم المنزلي دون متابعة ورقابة وتوجيه. هذا إذا كان المدرّس هو أحد الأبوين.
أما إذا كان المدرّس، هو معلم (أو معلمان) متخصص من خارج الأسرة، عندها يصبح شرط القدرة المادية ضرورة لا بدّ منها.
في كلتا الحالتين، الكتب المعتمدة يجب أن تتبع لمناهج إحدى الدول الغربية التي تعترف بالتعليم المنزلي، وهي باهظة الثمن بالمقارنة مع كتب المنهج اللبناني. يقول خيرالله إن أسرته تعتمد كتب المنهج البريطاني الذي يمنح الطالب «الشهادة الدولية العامة للتعليم الثانوي» IGCSE بعد اجتياز المرحلة الثانوية بنجاح. وتُعدّ هذه الشهادة من أشهر المؤهلات الدولية المتخصّصة بمنهج اللغة الإنكليزية، توفّرها جامعة كامبردج الدولية منذ العام 1985.
هل ستختفي المدارس ذات يوم؟
«لا غنى عن التعليم المدرسي مهما تطوّرت أساليب التعليم الأخرى، منزلية أو إلكترونية أو غيرها، أكان في لبنان أم في الخارج». هذا ما تؤكده ديانا خضر مديرة قسم الروضات في إحدى كبريات المدارس الخاصة في لبنان. وتضيف، أن التعليم المدرسي ضروريّ لبناء شخصية الطالب النفسية والاجتماعية، إذ تُعتَبَر المدرسة نموذجاً مصغّراً عن المجتمع ككلّ. والمشاكل التي تواجه التلميذ هي تجارب حسيّة ملموسة تعلّمه سبل الحلول أو التخطي، بحيث تشكّل كل مشكلة درساً مختلفاً من دروس الحياة. ففي حين يعزل التعليم المنزلي الطفل عن البيئة الضرورية لنموّ شخصيته، بحسب قولها، تؤمّن المدرسة بيئة مثالية بكل ما تحمل من تنوّع واختلاف لتحقيق الاندماج الإيجابي للطفل في بيئته ومحيطه.
على الصعيد التعليمي، تعترف «خضر» بنجاح التجربة المنزلية، إذ يكون التعليم من المدرّس الى متلقٍّ واحد، فيحصل الأخير على الاهتمام الكامل كل الوقت. لكن التعليم ليس مجرّد حروف وكلمات وأرقام، بحسب قولها، إنما هو مسار متكامل من الاكتساب، ولا يمكن الحصول على هذه المهارات إلا في المدرسة.
وتضيف، أن مرافقة الأهل الدائمة للطفل، تزيد من تعلّقه بهم، وقد تظهر جرّاء ذلك انعكاسات سلبية في أحيان كثيرة، تترجم بالانطوائية أو بالخوف، ما يؤثر سلباً على صحته النفسية.
هذا على الصعيدين العلمي والذاتي، أما على الصعيد القانوني، فتقول «خضر»، إن القانون اللبناني يسمح بالتعليم المنزلي حتى سن السادسة، بعد ذلك لن يُقبل في أي مدرسة كل طفل بلغ السابعة من عمره ولم يتسجّل بشكل رسمي في إحدى المدارس المعتمدة، سواء كانت رسمية أم خاصة، حتى ولو كان ملمّاً بالمعلومات المطلوبة. ويجب على الطفل أن يبقى في المدرسة حتى إنهاء مرحلة التعليم الأساسي، وهي المرحلة التي ترعاها النصوص القانونية المتعلقة بالموضوع تحت مسمى «إلزامية التعليم».
ثم تتابع عن القواعد التعليمية الملزمة، فتقول إن النظام التعليمي المتّبع في المدرسة اللبنانية (سواء كانت خاصة أم رسمية، أكاديمية، أم مهنية)، يتبع نظاماً عالمياً معتمداً في جميع الدول. فالدوام المدرسي محدّد بعدد من الساعات، قد يزيد في دولة ساعة واحدة، أو ينقص في أخرى ساعة، لكنه مرتبط بهامش موحّد. والأساليب التعليمية المتّبعة متشابهة أيضاً. كذلك المناهج، رغم اختلاف مصادر المواد بين المدرسة الخاصة والرسمية، وهذا يعود لتوجّهات الإدارة بحسب المهمة والرؤيا (mission and vision)، لكنها تراعي المنهج الرسمي في لبنان، فالمهم تغطية كفايات واضحة ومحدّدة.
التعليم المدرسي vs التعليم المنزلي
يقول الدكتور Brian D. Ray في مراجعة لدراسة أجرتاها Jillene Seiver وElisa Pope تتعلق بالتعليم المنزلي، نُشِرت هذه المراجعة على موقع NHERI (National Home Education Research Institute) في 13 شباط 2024: «كان الناس يشعرون بالقلق من أنَّ مثل هذا التعليم قد يمنع الأطفال من أن يصبحوا اجتماعيين عملياً». ليعود ويثبت العكس من خلال ما ورد في الدراسة ذاتها، تلك المنشورة في العام 2021، وأجريت على عدد من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة. قسم منهم تلقّى تعليمه بالكامل في المنزل (30 شخصاً)، والباقون تابعوا تعليمهم في المدرسة (53 شخصاً) من صف الروضة حتى الصف الثاني عشر.
بعد جمع بياناتهم لسنة مضت على الأقل، كشف التحليل عن ارتفاع كبير في معدلات العمل التطوعي بين المشاركين الذين تلقّوا تعليمهم في المنزل. تلاهم من تابعوا تعليمهم في مدارس خاصة. وفي آخر القائمة جاء من تعلّموا في مدارس حكومية. كما تساوى الجميع في معدلات المشاركة في الأنشطة الفنية والرياضية.
خلصت الدراسة الى دعم فكرة التعليم المنزلي، خصوصاً في ما يتعلّق بالمشاركة الاجتماعية.
هذا في الولايات المتحدة الأميركية، أما على صعيد الدول العربية، فتعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة الأكثر تنظيماً للتعليم المنزلي، رغم الضوابط الرسمية التي ترعى الموضوع. حيث جاء في الموقع الرسمي للحكومة ما يلي: «يعتبر مسار الدراسة المنزلية من مسارات التعليم المستمرّ المتكامل»، تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، حيث «تقوم الوزارة بتسليمه الكتب والمواد التعليمية التي يحتاجها… ويتقدّم للامتحانات في نهاية العام، أو نهاية الفصل الدراسي».
في لبنان، لا خيار إلا التعليم المدرسي، حيث تقول المادة 6 من المرسوم رقم 9706 الصادر في العام 2022، والذي جاء تطبيقاً للقانون رقم 150/2011: «كل طفل لبناني يبلغ السادسة من العمر مُلزم بارتياد المدرسة منذ اليوم الأول من السنة المدرسية وحتى نهاية السنة المدرسية التي يبلغ فيها السادسة عشرة من العمر، أو التي يحصل فيها على شهادة التعليم الأساسي الرسمية».
ثم تؤكد المادة 18 أن لا مفرّ من المدرسة مهما كانت الظروف: «يقوم الوزير أو من يفوّضه بمراجعة القضاء المختصّ طلباً للتدبير الاحتياطي الكفيل بإعادة الطفل الى المدرسة…»
يقول الباحث في شؤون التربية نعمة نعمة لـ»نداء الوطن،» إن الأونسكو لم تحدّد التعليم على أنه مدرسيّ فقط، فممكن أن يتم في المدرسة أو في البيت أو في أي مكان آخر. والتعليم هو أي شكل من أشكال تلقّي العلوم، ونقل المعلومات من شخص الى آخر، أكانت قراءة وكتابة، أم حرفة أم صنعة.
لا يرى نعمة أية مفاضلة بين التعليم المدرسي، والتعليم المنزلي، سوى برغبة الأهل. لكنه يؤكد أنّ للتعليم المنزلي شروطاً، منها ما هو ثقافي ومعرفي ومنها ما هو مادي، ولا يمكن أن ينجح في الوقت الحالي في لبنان إلا مع الأسر المثقفة، بسبب انعدام القدرة على فرض الرقابة الرسمية والمتابعة من قبل الوزارة المختصة. كما أن نظام التعليم اللبناني الحالي غير مؤهل لأن يسمح بالتعليم الحرّ خارج المدرسة.
في كلا الخيارين، يقول نعمة، يجب رعاية كلّ الجوانب التربوية والتعليمية التي يحتاجها الطفل، مثل خلق بيئة تمكّنه من التعلّم من الندّ الى الندّ، وهي عندما يندمج في مجموعات متشابهة عمرياً. ثم التفاعل الاجتماعي الحقيقي، الذي انعدم مؤخراً مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فالعلاقة المباشرة ضرورية لنمو المشاعر والأحاسيس لديه. ثم مراعاة الاحتياجات المتوافقة مع البيئة المحيطة ومهارات الطفل، وهو ما يسمّى بالتعلّم التكيفي.
التعليم المنزلي ليس تسرّباً مدرسيّاً
بحسب نعمة: «لا توجد في لبنان دراسات جديّة ترعى موضوع التعليم المنزلي. حتى أنه لا يوجد أي إحصاء دقيق لدى مركز البحوث عن عدد أو نسبة الأطفال الذين يتلقون تعليمهم في المنازل، ذلك بسبب انعدام وجود إحصاء سكاني دقيق. وهناك من يخلط بين التسرّب المدرسي والتعلّم خارج المدرسة. فحتى المهن يمكن تعلّمها خارج المدارس والمهنيات المعتمدة، ضمن أسس وضوابط محدّدة، لكنها معدومة في لبنان، فتجد من يتعلّم مهنة أو حرفة، يُجبر على القيام بأعمال لا ترتبط بتعليمه، فيصبح الطالب عاملاً وليس تلميذاً.
الابنة الكبرى في أسرة كمال خيرالله أصبحت في السادسة عشرة، سنتان وستتقدّم لامتحان IGCSE في السفارة البريطانية في بيروت، لكنها لن تفوز بمعادلة شهادتها في وزارة التربية اللبنانية.
يقول والدها: «من يحملون جنسيات أخرى، أو من تعلّموا في المدارس اللبنانية يمكنهم معادلة الشهادة ذاتها، أما نحن فمحرومون من معادلتها في لبنان لأننا لبنانيون. لكننا أخذنا هذه الخطوة، وسنستمرّ حتى النهاية».
لعلّها النهاية ذاتها التي يؤمل منها تحقيق الرقابة الفعّالة على التسرّب المدرسي الحقيقي، وتحديث القوانين والأنظمة بما يتوافق مع حاجات العصر.