كتب منير الربيع في “المدن”:
تتجدد في لبنان سيناريوهات المشاريع والأفكار المتضاربة بين القوى السياسية المختلفة. عند كل محطة، اعتاد البلد مثل هذه الانقسامات التي يتعايش معها اللبنانيون منذ ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير، مروراً بالثورة على عهد الرئيس بشارة الخوري، وبعدها على كميل شمعون وحلف بغداد، مروراً باتفاق القاهرة والحرب الأهلية.. وصولاً إلى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، وحقبة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والمواقف المتناقضة من ثورات الربيع العربي، إلى الموقف الانقسامي الحاد حالياً من الحرب على غزة.
ما بعد المواجهات
سبّاقاً كان حزب الله في طرح معادلته لوحدة الساحات، وعدم القدرة على الفصل فيما بينها، تحت عنوان الواجب الإنساني والأخلاقي، بالإضافة إلى الموقف السياسي. فانخرط الحزب عسكرياً في هذه المواجهة.
في المقابل، تصاعدت وتيرة المواقف المعارضة لما أقدم عليه الحزب. وتأخذ المواقف الاعتراضية طبيعة مضطردة بين من يريد الانفكاك عن دولة الحزب، أو الطلاق، أو من يريد اللامركزية المالية والإدارية الموسعة، أو وصولاً إلى ما صرّح به رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الأسبوع الفائت، حين أشار إلى أن حزب الله يطبق الفيدرالية. وبالتالي، بإمكان الآخرين تطبيقها.
هو الصراع اللبناني السرمدي القابل للاشتعال عند أي مفترق أو محطة. وبالتالي، فإن النقاشات الأساسية الدائرة حالياً تطرح الأسئلة حول المآلات اللبنانية، ما بعد هذه المواجهات المفتوحة في الجنوب.
الخيارات المسيحية
الأكيد أن غالبية القوى السياسية تطرح التساؤلات، وخصوصاً القوى المسيحية التي تبحث في إصدار وثيقة وطنية مشتركة، على الرغم من الخلافات المستمرة بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ. فالقوات تذهب إلى خيار انفصالي بعيداً عن سيطرة حزب الله على لبنان. والأمر نفسه ينطبق على حزب الكتائب. أما التيار الوطني الحرّ، فيحاول موازنة مواقفه بين الاعتراض على الحزب بلغة لا تخلو من تفهم مواقفه، أو توفير مقومات استمرار العلاقة السياسية معه. وحده تيار المردة لم يشارك في اجتماع بكركي، لمجموعة أسباب يعتبرها مبدئية بالنسبة إليه، لأنه يريد التحرك “ببعد وطني لا ببعد مسيحي”. وهذا ما سيشرحه سليمان فرنجية للبطريرك الماروني بشارة الراعي في زيارة مرتقبة إليه.
ما يريده فرنجية هو عدم تكريس انقسام إسلامي مسيحي في لبنان، وعدم تكريس انقسام بين قوى متطرفة. لا بل هو يعتبر أن المنطقة تتجه نحو التسويات بعد كل هذا التصعيد. وأهم تسوية ستكون على صعيد العلاقات الإيرانية السعودية، التي لا بد لها أن تنعكس على الساحة اللبنانية. بالنسبة إلى فرنجية فإن المنطقة تحتاج إلى إعادة إنتاج ما يعرف بتوازن الاعتدال. والاعتدال لا ينطبق على السنّة فقط، بل على الشيعة والمسيحيين. وبالتالي، لا يمكن فقط التذرع بمواجهة القوى المتطرفة سنّياً، بل يجب مواجهة التطرف المسيحي الذي لا يزال يكرر أخطاء الماضي نفسها.
“استيعاب” حزب الله!
منطق فرنجية يلقى مواجهة عنيفة من قبل القوى المسيحية الأخرى، التي أصبحت تعتبر أن لا قدرة أبداً على تشكيل توازن سياسي فعلي مع حزب الله، وأن الظروف السياسية والإقليمية لا تدفع الحزب إلى تسليم سلاحه. لا بل هناك خشية من احتمال ذهاب القوى الكبرى إلى تسوية مع حزب الله على غرار تسويات سابقة حصلت مع النظام السوري في التسعينيات، ومع الحزب في مرحلة التحالف الرباعي، أو ما بعد 7 أيار 2008، إلى معادلة الانقلاب على حكومة سعد الحريري في العام 2011، والتطبيع مع هذا الانقلاب، وصولاً إلى التسوية التي أنتجت انتخاب ميشال عون. مثل هذه المخاوف هي التي تدفع سمير جعجع إلى تمرير رسائل نقدية لاذعة لبعض الدول في اللجنة الخماسية، حول أن من يريد أن يعطي الحزب مكاسب فليعطه في بلاده أو من عنده، وليس من حساب لبنان واللبنانيين.
يأتي هذا الكلام في سياق الحديث عن العمل على مشاريع خارجية، حول كيفية استيعاب حزب الله كقوة سياسية واجتماعية وعسكرية في الدولة اللبنانية، وكيفية التدرج في تطبيق مثل هذا المشروع، بعد الوصول إلى اتفاق ديبلوماسي حول ترتيب الوضع في جنوب لبنان. خصوصاً أن بعض المعلومات تتحدث عن خطوط تواصل مفتوحة بشكل مباشر بين إيران وأميركا، تتناول الملف اللبناني وعدم التصعيد في الجنوب، والتمهيد لمرحلة مقبلة تتصل بكيفية دمج حزب الله بالدولة اللبنانية تدريجياً.
مثل هذا المشروع سيفتح الأبواب بشكل واسع على صراعات ونقاشات جديدة، حول وجهة البلد سياسياً في المرحلة المقبلة، وإذا ما سيكون هناك تسوية قادرة على إعادة لملمته، أم أن الاتجاه نحو المشاريع المتضاربة و”التصغيرية” هو السائد.