كتب خالد حماده في “اللواء”:
تتجاوز دلالات الهجوم الإسرائيلي الذي أدى الى تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق وسقوط مجموعة من قادة الحرس الثوري – في مقدّمهم المنسق الأعلى لفيْلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي – كل ما أمكن قراءته من عمليات اغتيال سابقة طالت قادة من الحرس الثوري أو علماء ومهندسون عاملون في المشروع النووي الإيراني. لقد أسقط تدمير القنصلية بما لا يدع مجالاً للشك كل التقييدات المعهودة التي طالما رسمت حدود الإشتباك بين إيران وإسرائيل فوق سوريا ولبنان وحالت دون بلوغ حدود المخاطرة.
إن الإصرار الإيراني بأن الرد آتٍ لا محال كما الإسهاب في تحليل وتقدير حجم ومكان الرد المرتقب على تدمير القنصلية في دمشق لا يمكنه التقليل من الوقع الكارثي للهجوم المعنوي والمادي على كل من طهران وحلفائها في المنطقة. يحاكي الهجوم على القنصلية التي تتموضع في مربّع أمني محظور في دمشق عملية طوفان الأقصى، فالقنصلية بالدرجة الأولى تخضع للسيادة الإيرانية بما يجعل استهدافها أثمن بكثير من المفاجأة المحققة والقدرة على اختراق التدابير والإجراءات المتّخذة وتحدي من يقف خلفها، وهو أثمن كذلك من القيمة العالية للأهداف المحققة. يؤكد تزامن الهجوم على القنصلية مع الهجمات اليومية على مواقع حزب الله وكوادره في لبنان أو على الفصائل الإيرانية في سوريا عزم إسرائيل وبدفع من واشنطن على الذهاب إلى أبعد حدود الممكن، بما يؤدي إلى ترسيم معالم جديدة للنفوذ الإيراني الذي تمدد إلى المنطقة بدءاً من الجنوب اللبناني بعد الإنسحاب الاسرائيلي في العام 2000، مروراً بالعراق بعد سقوط صدام حسين، والذي بلغ مراحل متقدمة في سوريا بعد اضطلاع طهران بمهمة إنقاذ النظام وقيادة «المحور الممانع».
يستمد الرد الإيراني المرتقب حراجته وربما استحالته من معطيين إثنين:
المعطى الأول، وهو سقوط نظرية الردع المتبادل مع إسرائيل بعد سلسلة طويلة من الضربات تلقتها الأذرع الإيرانية والبنى التحتية للحرس الثوري في كل من سوريا والعراق، والتي شهدت بعد طوفان الأقصى جولات إسرائيلية من استعراض القوة تجاوزت تدمير القرى الحدودية في جنوب لبنان لتلاحق مقاتلي حزب الله وبناه التحتية في العمق اللبناني وصولاً إلى شمال البقاع الذي انضم الى ساحات سوريا المستباحة. ترنحت صورة طهران أمام المراهنين في لبنان على تفوْقها الدائم واستشعروا حجم المغامرة التي يخوضها الحزب تحت عنوان «مساندة غزة»، لا سيما مع غياب أية مؤشرات لاستعادة التوازن في الميدان. وهذا ما جهد أمين عام حزب الله حسن نصرالله لترميمه في كلمته الأخيرة بتأكيده « أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواقفها كانت ولا تزال سنداً حقيقياً لكل من يقاتل هذا الإحتلال ويقاوم في فلسطين ولبنان والمنطقة، وأنها قلعة راسخة صلبة لا يمكن أن تخذل وتبيع وأن تتخلى عن إيمانها ودينها وأصدقائها والمظلومين».
أما المعطى الثاني، فهو التبدّل الكبير في الظروف الإقليمية والدولية التي ترتبت على عملية طوفان الأقصى. أجل لقد فقدت إسرائيل موقعها كقاعدة متقدّمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكقوة عسكرية رادعة يركن إليها. وبالتوازي تعرّضت طهران لخسارة مزدوجة إذ فقدت مصداقيتها أمام الولايات المتحدة بالقدرة على التحكم بالمخاطر التي تهدد إسرائيل بعد نجاح المقاتلين الفلسطينيين في اختراق غلاف غزة، كما فقدت في الوقت نفسه دورها في ممارسة دبلوماسية القوة مما وضعها خارج إطار التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة. هذا وقد سبق لطهران أن تخلت عن دورها الميداني بعد تنصلها من أي علاقة لها بالعملية العسكرية التي أطلقتها حركة حماس، وبعد النأي بنفسها عن أية مسؤولية في إدارة العمليات التي تخوضها الأذرع في كل من لبنان وسوريا والعراق والبحر الأحمر مكتفية بالإعتراف الخجول بدعمها.
ومن جهة أخرى، قدّم الفشل الذي مُنيت به كل من تل أبيب وطهران جملة من الحوافز إستثمرتها واشنطن للعودة الى المنطقة. يأتي في مقدمة تلك الحوافز تحوّل الخطر الوجودي الإسرائيلي إلى همّ أميركي مما استدعى حضور الولايات المتحدة الميداني وحلفائها الغربيين الى المنطقة لإدارة المخاطر بطريقة مباشرة وضبط إيقاع العمليات العسكرية. وكنتيجة مباشرة ومنطقية لكل ذلك فرضت كل من قطر ومصر والمملكة العربية السعودية مشاركاتها في جولات التفاوض لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، واستعيدت القضية الفلسطينية الى المدار العربي بعد انحسار الدور الإيراني.
ستتخبط طهران طويلاً في البحث عن رد يعيد لها ما فقدته بعد تدمير قنصليتها في دمشق، إذ لا يكفي الإختباء وراء عدم الرغبة في توسيع الصراع في المنطقة لتجاوز مصابها المعنوي الكبير، وهي إذ دفعت بالحوثيين لتكثيف الهجمات في البحر الأحمر والتهديد بقصف رأس الرجاء الصالح بعد تدمير القنصلية، وأعلن مستشار مرشدها أن سفارات إسرائيل في العالم أصبحت غير آمنة، فقد أوفدت في الوقت عيْنه وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان إلى مسقط التي سبق أن استضافت جولات عديدة من التفاوض مع الولايات المتحدة حول الملف النووي، وفي كل ذلك أكثر من إشارة ليس لترشيق الرد المناسب بل للبحث في ترشيق الرد على الرد.
تتشارك تل أبيب وطهران القلق على المستقبل، ففيما تتساءل إسرائيل وسط حطام خلفته وحشيتها عن ماهية «اليوم التالي» بعد انسحابها من غزة، تبحث طهران بالقلق عيْنه وسط مواقعها المتداعية في لبنان وسوريا وغزة عن ماهية «اليوم التالي» لمستقبلها في المنطقة بعد تدمير قنصليتها في دمشق. وربما في ما قاله وليد جنبلاط أول من أمس بعد لقائه الرئيس نبيه بري حول «الوصول الى تسوية مقبولة لتنفيذ القرار 1701 والعودة الى اتّفاق الهدنة عام 1949 الذي يملي على الفريقين اللبناني والإسرائيلي منطقة معينة من الحدود فيها حدّ من التسلح»، ما يؤشر الى رياح تغيير حقيقية قادمة من وراء البحار.