كتب جورج شبلي في “نداء الوطن”:
تقديم أوّل: في العام 2000 توجّهت بكركي بنداء صاخب إلى اللبنانيّين، وإلى الخارج، وضعَت فيه النّقاط على الحروف في ما خصّ الواقع السياسيّ والأمنيّ المفروض على الوطن، وما جرّ من وبالٍ على البلد وأهليه. واليوم، وعلى مدى عِظات البطريرك، تمَّت النقلة النوعية من موقع التّركيز على قبول الظّروف، أيّاً تكن، ومن عدم اتّخاذ ردة فِعل وازنة، منعاً لتوتير الأوضاع، وحرصاً على سلوكيّة بكركي الوطنيّة والتي قوامها الجمع لا التّفرقة، إلى نوعٍ من المواجهة التي من أبرز نتائجها الإنتصار للحقّ باندفاع عنفوانيّ، ورفض التّطويع بالتّهديد والتّرهيب. لذا، يعود صوت بكركي إلى ساحته، قائلاً: «لسنا مَكسر عصاً، وقيامنا برعاية أهلنا، أينما كانوا، هو راية فخر، وليس وصمة عار».
تقديم ثانٍ: إنّ عِظات البطريرك هي ثنائيّة التوجّه، بمعنى السّعي إلى أن يسمعه، وبإمعان كلّيّ، كلّ من الدّاخل والخارج، وعلى حدّ سواء. فالمطالبة بانتخاب رئيس للجمهوريّة، بأسرع وقت، هي لمنع أخذ البلاد إلى الضّياع، ولمَنع استباحة الحقوق والكرامات، وهي دعوة إلى إمساك الدستور بعَدل، حتى لا تبقى الدولة منشولة من متسلِّطين اقترعوا على ثياب لبنان بعد أن علّقوه على خشبة من لحمه ودمه. والعِظات صرخة ينبغي أن يسمعها المجتمع الدّولي، لحثّ المجلس النّيابيّ على القيام بواجبه الدّستوري والوطنيّ، ولدعم حياد لبنان، منعاً لتَرَهُّل الدولة واستباحة كيان الوطن، وزَجّه في أتون المَحاور، ما يؤدّي، حتماً، إلى تحريم حلم النّاس بالتحرُّر الحقيقيّ، وتَوقهم إلى حياة راغدة وواعِدة.
تقديم ثالث: لقد باتت بكركي، في عِظات سيِّدها البطريرك، تشعر بالحاجة إلى فَرض تسويتها، على الدّاخل، وعلى محيطها أيضاً. فبعدما مارست، ولفترة غير قصيرة، سياسة ردّة الفِعل التي أَلْزَمَتْها تقديم تنازلات إضطراريّة لحماية لبنان مِمَّن يريدون له السّوء، أغراباً و»ولاد البلد»، برز لها سؤال استراتيجيّ: «هل كُنّا على حَقٍّ في عدم متابعة معركة السّيادة التي بدأها أسلافنا»؟ من هنا، كانت عِظات البطريرك عودة للتَمَسُّك بالحقّ، من جديد، وهو حَقُّ أن يكون لنا وطن سَيِّد، ذو قرار حُرّ، يعيش فيه بَنوهُ غير قَلِقين على حاضرهم ومستقبلهم، فتَعود الكرامة الوطنيّة، بذلك، إلى أَخْذ نَفَس .
ملاحظة: إنّ العودة إلى السّاحة الوطنيّة بالمواجهة، ليست عشوائيّة، بِقَدر ما هي مُلتزِمَة باستراتيجيّة واضحة، وهي المَضِيّ بالتَّحرُك، حتى اندثار مَقولة الدُّوَيلة التي دمَّرَت الوطن بشَدِّهِ إلى الإنحياز، وتَبَنّي التَّمَحور القاتِل، ليُشرِق، على أنقاض هذه البِدعة، فجر الدَّولة التي تعود إلى روح الميثاق الوطنيّ، الذي دافعت عنه بكركي، ودفعت، بذلك، الكثير من الأثمان .
الإشكالية: هل تُشكِّل عِظات البطريرك مُفتَرَقاً مفصَلِياً في حاضر الوطن، ومستقبله؟ وما هي الآلية المُتاحة، أو خارطة الطَّريق، للتَّوصُّل إلى جعل مضمون هذه العِظات حقيقة مَلموسة؟
الشَرح: إنَ الإجابة، في هذا الموضوع، سهلة، وخطيرة، في آن واحِد. فإذا تَوَكَّلنا على استعداد القوى السِّيادية، جميعها، إلى الحراك الفاعل، وبشتّى الوسائل، للتَّأثير، والدَّعم، يُمكن أن نضع أيدينا «في الماء الباردة»، كما يقول المَثَل الشَّعبيّ. أمّا إذا التَفَتنا إلى حَملَقَة الفريق المُسَلَّح وإلى تَخَرُّصات مَنْ يصَفِّقون له، وَضَعْنا أيدينا على قلوبنا. فالمواجهة، شِئْنا أمْ أَبَينا، هي بين الطَّرح الوطنيّ الموضوعيّ المُستنِد إلى مفهوم الكيان، والدَّولة، كما في سائر اُمَم الأرض، والتي تتخّذ بكركي، منه، موقفاً مبدئيّاً مسؤولاً، وبين استباحة الهيمنة بامتِلاك القوّة، ليفرض المُستَقوي مَعاييره في لعبة السُّلطة، مُختزِلاً الدولة، ومُصادِراً قرارها، حتى وَلَوْ كان سبيله إلى ذلك، الإِصطدام، أَقَلَّه، بِنُصف اللُّبنانيين، إِنْ لم يكنْ أكثر، حاليّاً.
وعلى هذا، يَتَبيَّن، وبوضوح، أنّ سقف القَبول بمشروع الدولة، وحياد البلاد، وعودة القرار إلى السلطة الشرعيّة التي تمتلك، حصريّاً، السّلاح، هو منخفِض، أو متخلخِل، لدى فريق السلاح خارج الشّرعية، والذي يعرِّض البلد لاهتزازات خطيرة يمكن أن تودي بوجوده. فما تَسويق التَّشهير بالتّخوين والعَمالة، وما الإِعلان بأنّ جماعة الفريق المُسلّح هم «أسياد هذا البلد»، وما التَّهديد المستمرّ الذي يجري على ألسنة الأَصيل والوكيل وكأنّه «تحصيل حاصل»، سوى الصورة الحقيقية لواقِع لا يَقبل الجَدَل، والمُتَمَثِّل بالرّفض القاطع لتَخليص لبنان من أزماته التي افتعلها هذا الفريق وأعوانه الميامين، وذلك للوصول إلى الإستئثار النّاجز بالسّلطة، وتسهيل تنفيذ شعار «لَبَّيك يا مَوت».
الحَلّ المُتاح: قبالة هذه الحَيثية – المُشكلة، لا بُدّ من تَبَنّي إجراءات ميدانية مُباحَة، ومُتاحَة، في آنٍ معاً، يُمكن استهلالها بإعلان قيادة بكركي لِما ينبغي، حتماً، أن يُصار إلى إحيائه، أي «الجبهة اللبنانيّة المُوَسَّعَة» التي يتمثّل فيها الجميع من أيّ مذهب أو طائفة، وتدعو إلى التَّعبئة المُستدامَة لجُمهور «الحرية والسّيادة والإستقلال»، والذي لَمّا يَزَلْ يَثِق بمرجعيّته في بكركي، وبأَهدافها الوطنيّة. وتالياً، التَوَجُّه لكلّ النَّسيج الوطنيّ قاطبة، بِخُطاب واضح، وجريء، ومستمِرّ بِتَنامٍ، مُرَكِّزاً على ما يعاني منه اللبنانيّون، جميعهم، من ذُلّ ومهانة وعَوَز وقَهر، بسبب تمادي أخذ البلاد إلى جولات الإنقسام، والتّباعد، والتّفقير، والتّهجير، والحرب العبثية، وما أدّى إلى خَلَل في بنية الدولة، وتَعَدٍّ على الكيانيّة وسيادتها، أَنتجَ قلقاً على السّلامة والمصير.
كما ينبغي العمل على إطلاق استراتيجيا المواجهة، بالتَّواصل مع الخارج، إقليميّاً ودوليّاً، وعلى أعلى المستويات الرسمية والأَهليّة، لِعَرض حقيقة ما يجري، وللمطالبة بِدَعم لبنان، سريعاً، لكي يعود بلد الأَمان والأمانة، وذلك، بتَدويل أزمته، وتنفيذ القرارات الأُمَمِيّة، كما يلزم، وتجييش الجامعة اللبنانية الثقافية في العالَم، واللبنانيّين في بلدان الإنتشار، لِطَرح القضية اللبنانية من على المنابر العالميّة، والمَحافل الدوليّة، وهي قضيّة مركزيّة مُحِقَّة وحاضرة في عمق الوجدان الوطني، وهي، كذلك، جزء من ثقافة الإنتماء. وما تحريك المَهاجِرَة سوى تشكيل لصَمّام أمان دَوليّ أكيد، نحن بأَمَسّ الحاجة إليه.
خاتمة: إنّ البطريرك لم يَعُدْ جُندياً مجهولاً، فعِظاته أقوى الأَسلحة، وأَحَدُّها، وهي عامِل النّجاح الأَوحد في المُواجهة بين الخوف والإِقدام. لقد انقضى موسم شَطب بكركي، فلا نُضَيِّعَنَّ، إِذاً، فرصة عودتها مع شَعبها إلى السّاحة، رافِعة بَنداً وحيداً قوامه نِضال غير قابل للتّراجع، وذلك، وحدَه، يُعيد خريطة الوطن إلى شعبه.