دعا شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى ل”الوقوف صفّا واحداً في مواجهة العدوان الإسرائيلي وزارعي الفتنة، وإلى ضبط النفس ومعالجة الإشكالات والقضايا المستجدَّة برويَّةٍ وروحٍ وطنيّة، فالبلادُ واقفةٌ على حافّةِ الخطر والانهيار”، معتبراً أن “البلادَ لا تتحمَّلُ مغامراتِ الحروب المُدمِّرة، ولا أي صراعٍ داخلي أو خللٍ أمني”.
وأمّ شيخ العقل الصلاة صبيحة عيد الفطر المبارك في مقام الأمير السيد عبدالله التنوخي في عبيه، بمشاركة مشايخ وفاعليات ورؤساء لجان وأعضاء في المجلس المذهبي ومسؤولين في مديريتي مشيخة العقل والمجلس والمستشارين.
وبعد الصلاة، القى الشيخ أبي المنى خطبة العيد بحضور الشيخ الجليل ابو محمود سعيد فرج والمشايخ والمصلين جاء فيها: “ايها المصلون والمُفطِرون بعد طولِ صيامٍ والتزام، والمُدرِكونَ السعادةَ فرحاً بأداء الفريضة والطاعات، وبجهادِ الأيامِ والليالي والساعات، وعملِ الخير والزكاة، وتطهيرِ الذات، ومضاعفةِ الصلوات. قال تعالى في مُحكَم تنزيلِه: “فمن شهِدَ منكمُ الشهرَ فلْيصُمْه”. آيةٌ مُنزَلةٌ تُنبِّهُ المؤمنين إلى ضرورة صيام شهرِ رمضانَ المبارَك، كما تدلُّ آياتٌ أُخرى على أنّ “الصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ”، كما “الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ” “أعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا”.
اضاف: “من هذا المنطلَق، ولكون الصيامِ باباً لكسب المغفرة والأجر، فإنَّه فُرِضَ على المسلمين ليكونَ سبيلاً لهم لتقوى الله، ورحمةً منه تعالى عليهم، ولم يُفرَضِ على المسلمينَ دون سواهم، بل كُتِب عليهم كما كُتِب على مَن أَسلموا وآمنوا قبلَهم، لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، وقد ترتّبتْ على هذه الفريضةِ أهميَّةٌ دينيةٌ ودنيوية، إذ هو أمرٌ من الله، والإنسانُ الذي يمتثلُ لأوامرِ الله يستطيعُ أن يتغلّبَ على شهوتِه، وأن يسيطرَ عليها، وأن يمتلكَ زِمامَ نفسِه، ويتوجّهَ بها الوجهةَ الصحيحةَ والصالحة، فيعلمُ بذلك أنّه عبدٌ لربّه، وليس عبداً لمطامعِه وشهواته، وتلك هي الفائدةُ الأهمُّ من الصوم، بالإضافة إلى فوائدِه الصحيّةِ والنفسيّة، إذ إنّه يُساعدُ في تقوية الإرادة والعزيمة، وفي التربية على الحِلم وتربية الإرادة وكبح جَماح الأهواء، والشعورِ معَ الفقراء والمساكين والمساواةِ بين المسلمين واحترامِ الناس أجمعين. وإذا كان أحدُنا يعتقدُ أنَّ الصَّومَ بمعناهُ ومغزاه هو الامتناعُ عن الأكل والشرب والشَّهوةِ فحسب، وفي أوقاتٍ معلومةٍ ومحدَّدة، أي بالإمساكِ عن المُفطِرات من طلوع الفجر الصادق حتى غروب الشمس الواضح، وذلك لقوله تعالى: “وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ”، إذا كان هناك مَن يعتقدُ أنّ ذلك هو المغزى من الصَّوم، فإننا نقولُ له إنّ هذا هو الحدُّ الأدنى المطلوبُ من المسلم المؤمن الموحِّد، امتثالاً لأمره تعالى، وتلك هي المرتبةُ الأُولى المعروفةُ بصوم العموم. أمّا صومُ الخصوص فهو كفُّ النظرِ واللسان واليد والرِّجل والسَّمْعِ وسائر الجوارح عن الآثام، وهُو أرفعُ درجة، ولكنَّه أدنى من صومِ خصوص الخصوص الذي هو صومُ القلب عن الهمَمِ الدنيئة والأفكار المبعِدة عنه تعالى، وكفُّه عمّا سوى الله تعالى بالكلية، كما يقول الإمامُ الغزالي، بل هو صومٌ عن كلِّ نيَّةٍ سيِّئةٍ ومعتقدٍ فاسدٍ وكلامٍ باطلٍ وفعلٍ ذميم، فهلَّا احترمنا الفريضةَ أوّلاً، كمدخلٍ إلى ما هو أسمى؟ وهلَّا تقدّمنا بالصوم من مرتبةٍ إلى مرتبة، فارتقينا به وحقَّقنا الغايةَ منه كما نرتقي بالزكاة والصلاة والفرائض التكليفية جميعِها؟ وهلَّا حقَّقنا الغايةَ الإنسانيةَ من وجودِنا التي ما خُلقنا إلَّا لأجلها؟ خلقَنا اللهُ فأماتنا وأحيانا، ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ سعياً وأداءً واجتهاداً لتحقيق إنسانيَّتِه التي هي الغايةُ المُثلى، لقولِه تعالى: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”. فاللّهُ خلقَ الإنسانَ لعبادته ولعِمارة أرضِه، بما تتطلّبُه تلك المُهمّةُ من معرفةٍ جيدة بالمعارف والعلوم. قال اللهُ عزَّ وجَلّ: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ”، وقال سبحانه وتعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ”.
وتابع: “لكي يكون عيدُنا فرحاً وسعادة، لا بدَّ لنا من التأمُّلِ في معنى العبادة، والتيقُّنِ بأنَّ العبادةَ فعلُ توبةٍ وسعيٌ ومجاهدةٌ دائمة لا تتوقَّفُ عند أداءِ فرضٍ أو إحياءِ مناسبةٍ، قال اللهُ تعالى لنبيِّه المصطفى: “اعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ”، واليقينُ، أكان الموتُ أم كان التحقُّقُ وبلوغُ الغاية، ففي كلا المعنيين إشارةٌ إلى طلب الاستمرارِ والاستزادة وعدمِ التوقُّف عند حدٍّ أو حاجز، فالموتُ قادمٌ لا مَحالة، وبلوغُ الغايةِ هدفٌ أسمى لا يجوزُ إهمالُه، إذ لا بدَّ من المسافرة الدائمة في درجات العبادة والمعرفة والتعاليم لاستدراك حلول القَدَر بإدراك ما لم يُدرَكْ وتحقيقِ ما يُرتَجى، وكلٌّ على قدْرِ طاقتِه، لقولِه تعالى: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا…”، وكلٌّ بما يُقدِّرُ اللهُ له من منزلةٍ، ودائماً وِفقَ القاعدةِ الإيمانيةِ القائلة: “يا عبدي عليك بالسعي وعليَّ بالإعانة… عليك بالسؤال وعليَّ بالإجابة”.
وأردف: “جاء في الحديث القُدُسيّ عن لسانِ الله تعالى قولُه: “وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ”. هذا هو رجاؤُنا، وهذا هو دعاؤُنا صبيحةَ هذا اليوم المبارَكِ قائلين: ربّي اجعلْ لنا العيدَ فِطراً على ما نُحبُّ كما يسَّرتَ لنا في رمضانَ الصومَ عمَّا نُحبّ، وباركْ لنا طعامَنا كما باركت لنا صيامَنا، وسامحنا إن فرِحنا بانقضاء شهر الصَّوم المبارَك وأدائنا لفرائضِه كما سامحتنا وتسامحُنا دائماً إن قصَّرنا عن أداء الواجب كاملاً واعترفْنا بتقصيرِنا، واجعلْ فِطرَنا ميموناً كما جعلتَ صيامَنا مقبولاً، وسدِّد خُطانا اللهمَّ واهدِنا إلى سَواء السبيل، إنَّك أنت الحليمُ الكريمُ الرحمنُ الرحيم”.
وقال شيخ العقل: “يتلاقى هذا العامَ زمنُ الصومِ المسيحيِّ والفصحُ المجيد بزمن الصيام الإسلاميّ والفطرِ السعيد، وفي التلاقي تناغمٌ وانسجام وتقاربٌ والتحام، فالألمُ والصَّبرُ، كما الفرحُ والسعادة، كلُّها مشاعرُ إنسانيّةٌ موحَّدةٌ توحِّدُ المؤمنين؛ مسلمين ومسيحيين، وتجمعُهم في مسيرةٍ إيمانيَّةٍ تختلفُ دروبُها، ولكنَّها تؤدّي إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ روحيّةٍ سامية، هي أبعدُ من أحكامِ الصَّوم ومظاهرِ العيد. ولعلَّ في التلاقي هذا العامَ رسالةً تحثُّنا، نحن اللبنانيين على اختلاف أثوابِنا ومسالكِنا، للعودة إلى الجذور والتمسُّك بروحية الصيغة الوطنية واحترامِ مشهدِ التنوُّع في الوحدة الذي يميِّزُ هذا الوطن، ولتحمُّلِ المسؤولية في القيام بواجب إنقاذ البلاد من الانهيار وإعادة بناء المؤسسات والنهوض بالدولة. لقد طال الانتظارُ وكاد الصبرُ أن يفرَغَ من قلوبِ اللبنانيين، لكنَّنا ندعو دائماً إلى التحلِّي بالحكمة والواقعية وبروح المسؤولية، ونحن نرى أنَّ الواقعَ اللبنانيَّ تتنازعُه التجاذباتُ من هنا وهناك، وتحتدم فيه الأيديولوجياتُ والنظريات، بين بلدٍ مُسالِم ومقاوِم، وبين علاقةِ شرقٍ وغرب، وعروبةٍ وعالميّة، وهويّةٍ إسلاميّةٍ ومسيحيةٍ مشرقيّةٍ، وبين مذهبٍ ومذهب، ووصايةٍ ووصاية، وولاءٍ وولاء، وكأنّ هذا الوطنَ الصغيرَ بمساحتِه والكبيرَ بموقعِه عصيٌّ على الاستقرار، ومقدَّرٌ له أن يكونَ محطَّ أنظارِ القريب والبعيد، وموضعَ استقطاب الشقيقِ والغريب، واهتمامِ الصديق الحبيب والعدوِّ المُريب”.
واعتبر “انّ واقعَ التنوُّعِ الذي نعيشُه ممكنٌ أن يكون مِيزةً ونعمة، أو أن يكون مُشكلةً ونِقمة، وهذا الأمرُ أو تلك الجدليةُ تتعلَّقُ بقدرةِ اللبنانيينَ أنفسِهم أن يتعاملوا معها بحكمةٍ وإيجابيّة، وبتعاونِهم لاستثمارِ علاقات المكوِّنات اللبنانيةِ جميعِها من أجل بناء الدولة وحماية الوطن، لا أن تُستَغلَّ تلك العلاقاتُ والمقوِّماتُ لاستقواء هذه الجهةِ على تلك، أو لإنتاج أحلامٍ فئوية أو تقسيمية أو تصادميّة، لأننا بذلك نكونُ قد حكَمْنا على لبنانَ بالفشل وعلى صيغة التنوُّعِ بالانهيار والتفكُّك، وعلى أولادِنا بالتشتُّت والضّياع. وبقدرِ ما ندعو إلى الوقوفِ صفَّاً واحداً مُتراصَّاً في مواجهة العدوان الإسرائيلي وزارعي الفتنة ومروِّجي الفساد على أنواعِه، فإننا ندعو إلى ضبط النفس ومعالجة الإشكالات والقضايا المستجدَّة برويَّةٍ وروحٍ وطنيّة، فالبلادُ واقفةٌ على حافّةِ الخطر والانهيار بما فيها من أزماتٍ اقتصاديّة ومعيشية وتهديداتٍ عدوانية وتراكمِ أزماتِ النزوح واللجوء والهجرة، وبقدرِ معرفتِنا بأنّ البلادَ لا تتحمَّلُ مغامراتِ الحروب المُدمِّرة، فإنَّنا نُدرِكُ أيضاً أنّها لا تتحمَّلُ أيَّ صراعٍ داخلي أو خللٍ أمني، ما يستوجبُ الوعيَ واليقظةَ لإطفاء أيِّ شرارةِ تَحَدٍّ وإسكاتِ أيِّ نبرةِ تهديد، وعدمِ السماح لأيادي الشرِّ الغريبة بالعبثِ بأمنِ البلاد، والتنبُّهِ لضرورةِ معالجةِ القضايا العالقة بتفاهمٍ ووحدةِ موقِفٍ وقرار. فلنحتفلْ معاً بأعيادِنا، ولنتَّحدْ لخلاص بلادِنا، ولتكُن منَّا أمُةٌ تدعو إلى الخير وتأمرُ بالمعروف وتَنهى عن المنكَر، ولنحترمْ دستورَنا ونلبِّي نداءَ الواجب دون تردُّد، ولنُغلِّبْ مَنطِقَ الحوار على مَنطِقِ التعطيل والانتظار، ولنصلِّ صلاةَ الأملِ والرجاء، ولْنطرُدِ اليأسَ من نفوسِنا، والحقدَ من قلوبِنا، وأفكارَ الكراهية من عقولِنا، ولنرتَقِ بالعيدِ، فِطراً كان أم فُصحاً، إلى حيثُ يتحقَّقُ التوحيدُ وتتجلَّى الوحدةُ وتُبلَغُ السعادةُ”.
وختم: “أمَّا من جهتِنا، وعلى مستوى طائفتِنا التوحيدية، فنحن الحريصون قبل سوانا على دورِها ورسالتِها، وعلى مستقبلِها الديني والاجتماعي والوطني، وعلى تحصينِ المجتمعِ بالتماسُكِ ووحدةِ الكلمة والتزامِ الحدود والكفِّ عن التعالي، وذلك بما لدينا من رؤيةٍ للإصلاح، ورحابةٍ وانفتاح، ولأننا الأَولى بسماع الأفكارِ البنَّاءة وتحمُّلِ المسؤولية والتعاملِ معَ الجميع بالإيجابيّةِ فكراً وعملاً، على ضوء ما يُمليه علينا إيمانُنا وضميرُنا ومَوقعُنا، مُتطلّعينَ دائماً إلى الأمام، وداعين إلى ما هو أسمى وأرقى، واللهُ شاهدٌ على ما نَنوي ونقول، إنَّه نعمَ الشهيد ونعمَ الرشيدُ الحميد. كلُّ عامٍ وأنتُم بخير، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه”.