كتب خالد حماده في “اللواء”:
بعد ثلاثة عشر يوماً من الهجوم الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير القنصلية الإسرائيلية في دمشق وسقوط عدد من قادة الحرس الثوري، أتى الرد الإيراني المتعدد المحاور بالمسيّرات وصواريخ الكروز والصواريخ البالستية من إيران والعراق واليمن مسجلاً بالشكل سابقة غير متوقعة مع وصول المقذوفات الإيرانية الى العمق الإسرائيلي.
لم تقتصر فرادة الهجوم الإيراني وخصوصياته على بلوغ العمق الإسرائيلي، بل ربما يكون الهجوم الأول في التاريخ العسكري القديم والمعاصر الذي يتم بعد إعلام الولايات المتحدة ودول الجوار قبل إنطلاقه بـــ 72 ساعة، أي بما يكفي لإتخاذ كافة التدابير لحماية المنشآت والبنى التحتية، وبما يسمح ليس بإحباط الهجوم، بل بتحويله إلى نوع من المحاكاة (Simulation) لوضع ميداني مرتقب بين جيوش حليفة توزعت الأدوار بين صديق وعدو ، وبما يعني أن إسرائيل كانت في تمرين المحاكاة إياه مثيلاً للعدو وليست عدواً ينبغي تدميره.
المشهد الذي استمر بضع ساعات كان بمثابة «لعبة الحرب» التي تجريها الجيوش والمعاهد العسكرية الكبرى لإختبار قدرة المنفذين على إتقان الأدوار ليس العملياتية فقط، بل كل ما يتصل بإصدار البيانات حول الخسائر التي تتناسب مع الأهداف، والإتصالات الدولية بما فيها رفع الشكاوى الى مجلس الأمن، وحتى عودة القوى المشاركة إلى مواقعها الأساسية. ويعتبر سقوط الجنود في تمارين المحاكاة إياها مؤشراً على ارتكاب خطأٍ ما من قبل أحد المنفذين، أما الخسائر في الأعتدة والأسلحة فهي لضرورات إضفاء الواقعية والجدية على الواقع الإفتراضي.
يُحسب للولايات المتحدة إدارة هذه العملية ببراعة فائقة، بدءاً من إنتاج الظروف التي سبقت العملية أي منذ إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بالهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق ووضع طهران أمام خيار لا بد منه، كما يُحسب لها قدرتها على التحكم والسيطرة بكل التفاصيل الميدانية من توزيع المهام على القوى الغربية والعربية المتحالفة في الإقليم لإتقان عملية التصدي للهجمات الصاروخية والمسيّرات حيث تولت في النهاية الولايات المتحدة بوصفها القوة المنظمة لتمرين المحاكاة الإعلان عن إسقاط 99% منها. أما في التقييم النهائي لأداء الدول المشاركة فقد خرج الكل منتصراً (win win situation)، البيانات الإيرانية تحدثت عن تحقيق كل الأهداف المرجوة من الهجوم، كذلك تولى الرئيس بايدن توجيه التهنئة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بالنصر الذي أدى الى إحباط الهجوم، فيما أسدل البيان الصادر عن إجتماع الدول السبع الكبرى الستار على الفصل الأخير من تمرين المحاكاة إياه.
إن الدروس المستفادة مما جرى في ليل 13 -14 نيسان 2024 ترقى الى اعتبارها جملة من المنطلقات التي ينبغي البناء عليها في تشكيل المشهد الإقليمي الجديد بما في ذلك التحالفات والإصطفافات الممكنة وتقدير المخاطر المترتبة على ذلك:
أولاً، أضاف الهجوم الإيراني الواسع النطاق، بعد عملية طوفان الأقصى، دليلاً إضافياً للولايات المتحدة بأن إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها وعلى الإستمرار كدولة مستقرة في المنطقة، وأن مسألة الإمداد بالسلاح والمال والتقنيات العسكرية غير كافية لتحقيق تفوق في ميزان القوى أو للتعويض عن العمق الاستراتيجي الذي تفتقر له إسرائيل. وهذا ما يطرح من جديد مأزقاً جدياً حيال إمكانية بقاء إسرائيل واستمرارها كوطن قومي لليهود و إعادة تحديد مبرر وجودها كدولة في المنطقة.
ثانياً، أحدث المشهد الجديد تغييراً جذرياً في تراتبية المخاطر الإسرائيلية التي كانت تتصدرها مسألة بقاء حركة حماس في غزة، أو استمرار طهران في تخصيب اليورانيوم لإنتاج القنبلة النووية. تقدم التهديد الصاروخي بعد الهجوم الإيراني كل ما عداه من التهديدات بما يؤكد عدم قدرة لدى إسرائيل على استعادة المبادرة وعدم سقوطها أمام الضربة الأولى في غياب التحالفات الإقليمية والدولية الوازنة.
ثالثاً، دخلت المنطقة مع الهجوم الإيراني على إسرائيل فصلاً جديداً من التصعيد طويت معه المرحلة السابقة بكل أدواتها، بما يعني أن الهجمات والهجمات المضادة العابرة للدول ستتحول الى قواعد اشتباك جديدة بدل الإشتباكات الحدودية المعهودة سواء في جنوب لبنان أو في البحر الأحمر أو في غزة، وبما يعني أن الزمان والمكان قد أصبحا مناسبين بشكل دائم لتكرار ما حصل بأشكال ووتائر مختلفة وغير مسبوقة.
رابعاً، أثبتت الولايات المتحدة أنها اللاعب الوحيد القادر على الإدارة والتحكم بمنطقة الشرق الأوسط بكل تفاصيلها ومكوّناتها المتناقضة والمتحالفة، وأن كل ما يمكن أن تدّعيه الدول من أدوار إقليمية محكوم بالملاءمة مع المعادلات الأميركية النافذة. وفي هذا السياق تتماهى وتتكامل كل الأدوار الإسرائيلية والإيرانية والعربية تحت مظلة الولايات المتحدة، ولا تعدو التناقضات المعلنة الأيديولوجية أو السياسية أكثر من محاولة أحد اللاعبين المحليين تحسين شروطه ضمن الأطر المرسومة وليس أكثر.
وأمام المشهد الجديد الذي فرضته دقائق ما جرى في ليل 13 -14 نيسان 2024 يصبح التساؤل القلق مشروعاً حيال الأهداف الأميركية من إسقاط كافة المحظورات ونقل الصراع في المنطقة إلى نقطة اللاعودة، وحيال التغييرات الجذرية المترتبة على صدام كبير مرتقب.