كتب أحمد الأيوبي في “نداء الوطن”:
جاءت زيارة وزير البيئة ناصر ياسين إلى مدينة طرابلس لتكشف المزيد من الخواء السياسي والتواطؤ الإداري الأمني في معالجة مشكلاتٍ يُفترض أن تكون غير موجودة في عاصمة الشمال حيث يبدو أنّ الدولة تترجم أعلى درجات استقالتها من واجباتها ويتعامل أصحاب المناصب فيها مع الإجرام الاجتماعي والبيئي بالكثير من التهاون، إلى درجةٍ تستدعي أن يقوم وزير البيئة بتكرار حضوره إلى المدينة ليلاحق معضلة معالجة مكبّ النفايات وهو قنبلة موقوتة والرمي المتنامي للنفايات في أيّ عقارٍ مكشوف والأخطر هو ذلك الإحراق المتواصل لنفايات سامة من بؤر خردة لا يأبه القائمون عليها بإصابة مئات المواطنين بالأمراض الخطرة، بالإضافة إلى التلوث الآتي من قضاء الكورة، وكأنّ الفيحاء سائبة متروكة لا بوّاب لها ولا مسؤول!
قال الوزير ياسين إنّه في العام الماضي قام بجولة لملاحقة هذه الارتكابات وتمكّن من «إقفال عدد كبير من البؤر، لكن في هذه السنة ومع بداية الصيف سنعاود عملنا في اقفال كل البؤر العشوائية ومنع الممارسات الخاطئة والمضرة بحق طرابلس وأهلها»، أي أنّ جهود الوزير ابن البقاع لم تسفر عن الإغلاق الكامل لتلك البؤر، لا بل إنّ ما أُقفِل منها عاد إلى النشاط المؤذي بشكل واسع النطاق بحيث لم تنجُ منطقة من مناطق طرابلس من الدخان المسموم المتصاعد من النفايات المحمية أمنياً وسياسياً وإدارياً.
تنتشر البؤر الملوِّثة في السقي الغربي لطرابلس بشكل خاص، ومن عجائب الواقع الطرابلسي أنّ إحدى البؤر هي أرضٌ غير مسوَّرةٍ تابعة للبلدية يجري استخدامها من عناصر مجهولة ترتدي «ثوب الإخفاء» لا أحد يتمكّن من تحديد هويتها، ترمي المواد السامة وتحرقها ثم تختفي وتعود لجمعها بعد الإحراق وكأنّهم جنٌّ لا يمكن الوصول إليهم…
الروايات البائسة التي ترافق الإخفاق في قمع هذه المخالفة الجسيمة «لا تركب على قوس قزح» كما يُقال، ولا شكّ أنّ المسؤولية الأولى تقع على مجلس بلدية طرابلس الذي ينبغي أن يتخذ قراراً حاسماً بأولوية تطبيق القانون في المدينة وعدم انتظار المحافظ أو غيره، لأنّ الصلاحية الأولى بهذا الشأن منوطة بالبلدية، بسلطتها التنفيذية وبشرطتها التي يبلغ عدادها 130 شرطياً بإمكانهم تغطية الرصد والمراقبة لهذه البؤر وإبلاغ الأجهزة الأمنية للتحرّك الفوري، لكن يبدو أنّها مصابة بتصدعات وتسرّبات، حيث يعمل بعض عناصرها لدى المطاعم مما يوجب إقالتهم وتعيين بدائل عنهم، وكذلك حسم وضع قائد الشرطة الذي يبدو أنّه غير منسجم مع الرئيس، وهذا يستدعي اتخاذ إجراءات قانونية بالتفاهم مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام مولوي وكلاهما معنيان بمدينتهما.
من الجيد أن يعترف الرئيس رياض يمق بالمشكلة وأن يُبدي الاستعداد للانخراط في الحلول، لكنّ هذا يستوجب تفعيل الشرعية البلدية والبدء باتخاذ القرارات ومباشرة التعاون مع قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني لتطهير المدينة من كلّ المخالفات والاحتلالات التي تصيب اقتصادها وسمعتها وبيتها بأضرار غير محدودة، وفي تجارب سابقة ساهمت قوى الأمن والجيش بإزالة الكثير من المخالفات وبشكل حاسم.
لا يكفي قرار المحافظ بإزالة المخالفات لأنّه ينبغي أن يُرفد بالشرعية والمواكبة البلدية، خاصة أنّ سوابق المحافظ لم تكن مشجِّعة، وإن كان القرار الراهن جاء بدفعٍ من زيارة وزير البيئة ناصر ياسين رغم أنّه كان ينبغي أن يكون ساري المفعول منذ سنوات وأن لا يُضطر الوزير للحضور لمعالجة تسميم المدينة بشكل مباشر.
لا يمكن لرئيس الحكومة ووزير الداخلية ونواب طرابلس وبلديتها البقاء في هذه المساحة من الجمود، إلى درجة انتظار وزير البيئة لملاحقة ما يُفترَضُ أنّه أقلّ الواجبات التي يتعيّن عليهم القيام بها، وكيف يكون من المقبول أن يبقى تهاون محافظ الشمال رمزي نهرا وتواطؤه وإهماله لهذه الجريمة الموصوفة المستمرة والمتمادية السنة تلو الأخرى، وسط عجز مذهلٍ من كلّ المكوِّنات الطرابلسية عن وضع حدٍّ لعميلة التسميم الجارية على مدار الساعة؟
هل اعتادت قيادات طرابلس تدخلات الوزراء لمعالجة قضاياها، وهي تدخلات إيجابية كما هي الحال مع وزير الثقافة محمد وسام المرتضى الذي يقوم بتأهيل قاعة المؤتمرات (الرئيسية) في معرض رشيد كرامي بعد أن بقيت مهملة لعقود بالإضافة إلى مبادرات أخرى… و»طحشة» الوزير ناصر ياسين لوقف الجرائم البيئية فيها، بينما يبقى السؤال: أين هم من يفترض أنّهم مسؤولون عن الفيحاء وقضاياها ومرافقها وحقوقها؟!