كتب منير الربيع في “المدن”:
في الجنوب، وعلى مدى الأشهر الطويلة من المواجهات المستمرة، ثمة عامل إنساني واجتماعي لا يأخذه كثر في الحسبان. وهذا أكثر ما يشكل تحدياً وتهديداً وإحراجاً للإسرائيليين. ذاك العامل يرتبط ببقاء الناس في منازلها، على الرغم من معايشة حالة الحرب الحقيقية الدائرة هناك. وهي التي لا يعيشها اللبنانيون الآخرون حتى في مناطق جنوبية ربما لا يصلها دوي الانفجارات والقصف والغارات.
لربما كان مشهد “الزحف” البشري الكبير في أيام عيد الفطر باتجاه القرى الجنوبية أحد أكثر المشاهد الاستفزازية للإسرائيليين. وهذا له مجموعة أسباب واعتبارات.
أولاً، هناك ثقة عامة بأن الإسرائيليين يركزون على استهداف المواقع العسكرية أو التي فيها شبهة بذلك. لا سيما أن كل ضربة سابقاً حصلت واستهدفت مدنيين كان الإسرائيليون يوصلون رسائل بأنهم لم يتقصدوا ذلك.
ثانياً، قناعة لبنانية بأن الإسرائيليين لن يستهدفوا المدنيين من خلال ارتكاب مجازر. وهم يستندون إلى ما قاله أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في إحدى إطلالاته السابقة، في معرض ردّه على كلام اسرائيلي بعدم استهداف المدنيين. إذ قال بما معنا أنهم لا يستهدفون المدنيين أو المنشآت المدنية، لأنهم لا يستطيعون ذلك ويتحسبون للردّ الأكبر والأعنف الذي سيقدم عليه الحزب.
ثالثاً، هناك جانب من التحدي لدى الجنوبيين للتركيز على مسألة التمسك بالأرض والتشبث بها فوق الدمار وعلى الرغم من المواجهات.
رابعاً، جزء من المواجهة والتحدي يتصل بإنتاج نزعة متفوقة على الإسرائيليين، الذين اضطروا إلى إجلاء كل سكان المستوطنات الشمالية، وألغوا الحياة بشكل كامل فيها، وسط ضغوط كبرى يمارسها هؤلاء السكان على الحكومة الإسرائيلية، باعتبارها قد تخلت عن الشمال وغير قادرة على فعل شيء، بينما اللبنانيون يمارسون حياتهم وموجودون.
كل هذه العوامل بالإضافة إلى عناصر أخرى، تدفع الإسرائيليين الى تكثيف عملياتهم العسكرية التدميرية. ووفق هذه القراءة، يمكن توصيف الغارات الكثيفة والمتزامنة التي شنّت الأربعاء باتجاه بلدة عيتا الشعب، وهي أكثر البلدات التي تعرضت لعمليات قصف. وقد يكون هناك أهداف متعددة من وراء ذلك. أولها أن يتم جعل المنطقة غير مأهولة، واعتماد سياسة الأرض المحروقة، وتخويف الناس في القرى الحدودية لدفعهم للمغادرة. ثانيها، ما يحاول الإسرائيلي تسويقه بأن هذه المنطقة تحتوي على أنفاق عسكرية لحزب الله، لا سيما أن الإسرائيليين ووفق سرديتهم يعتبرون أن كل القرى الحدودية فيها أنفاق.
هناك جانب آخر في السردية الإسرائيلية لا يجب إغفاله، خصوصاً بالنظر الجغرافي لعيتا الشعب، والتي تبدو إحدى أكثر البلدات التي يهتم بها حزب الله، نظراً لموقعها. فيما يحاول الإسرائيليون من خلال هذه الضربات اكتشاف ما لدى الحزب فيها، أو ربما ما هو تحت الأرض، أو التلويح بأنه يمهد لتوغل عسكري باتجاهها، سيكون هدفه وعنوانه هو تدمير الأنفاق. ولكن هنا لا يمكن التنبؤ بالمفاجآت التي يحضرها حزب الله، خصوصاً أن الإسرائيليين يضعون في حساباتهم أنهم سيتعرضون لكمائن كبيرة وخسائر كثيرة، فيلجؤون إلى عمليات التدمير لتخويف الناس والضغط على الحزب لتجنب مثل هذه السيناريوهات، أو المواجهة المباشرة الالتحامية.
ما يجري من تصعيد العمليات والعمليات المضادة، هو نوع من الضغط المتبادل، في سبيل إعادة رسم قواعد اشتباك جديدة كي لا يتسع إطار المواجهات أو الضربات التي قد تتحول الى حرب واسعة. الإسرائيليون يسعون من خلال معادلة تخويف الناس وزيادة الضغط العسكري على الحزب، دفعه إلى القبول بالمفاوضات ووقف المواجهة، في مقابل إصرار حزب الله على رفض هذه المعادلة وتوسيع نطاق استهدافاته وصولاً إلى شمال عكا، في إطار إبراز استعداده لأي تصعيد أو سيناريو مستقبلي.