كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي” الكويتية:
بين الارتباكِ الديبلوماسي بخلفيةِ حرب الجنوب وتشظياتها الآخذة في التمدّد، و«الارتكاب» السياسي بحقّ اللعبة الديموقراطية و«ألف بائها»، بدا لبنان أمس، وكأنّه يَدفن الرأسَ في الرمال بإزاء المَخاطر المتعاظمة من أفخاخ تُنصب له، أو الإمعان في اللعب على حافة هاويةِ صِدام كبيرٍ مع إسرائيل قد يقعُ من خلف حساباتٍ يمكن ألا يتطابق «الورقُ» فيها مع الميدان، في الوقت الذي لم تتوانَ غالبيةُ طبقته السياسية عن دقّ «مسمارٍ» جديد في نعش كل مساراتِ تداوُل السلطة، من رأس الجمهورية المقطوع منذ 1 تشرين الثاني 2022 والذي عطّل انسيابيةَ عجلة الحُكم، إلى «أخمص قدميها» الذي يفترض أن تشكّله الانتخابات المحلية (المجالس البلدية والاختيارية) التي عُلّقت للمرة الثالثة على التوالي في سنتين.
وفيما كان البرلمان يلملم تناقضاتِ ما يَكْفي من كتله لضمانِ نصاب التئام جلسةِ التشريع التي أفضتْ إلى «تقاطُع مصالح» على التمديد للمجالس البلدية والاختيارية حتى 31 أيار 2025 كحد أقصى – في غياب أطراف وازنة من قوى المعارضة – تحت لافتةٍ رئيسية عنوانها الوضع في الجنوب الذي لا يتيح إجراء الاستحقاق في هذه البقعة في لبنان، سادتْ الضبابيةُ بإزاء الموجةِ الأعنف من التصعيد الاسرائيلي ضدّ لبنان وجنوبه والتي جاءت عشية وصول وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه لبيروت في مَهمةٍ يُخشى أن تكون لرفع منسوبِ التحذيرِ من المضيّ في ربْطِ «بلاد الأرز» بملعب النار في غزة في ظلّ استعداداتٍ إسرائيلية لتوسيع «المحرقة» إلى رفح.
فغداة عشراتِ الغارات التي نفّذتْها إسرائيل في الجنوب، وبينها أكثر من 13 شكّلت حزاماً نارياً غير مسبوق حول أطراف بلدتي عيتا الشعب وراميا، جبل بلاط وخلة وردة، ليعلن الجيش الإسرائيلي أنه هاجم بالطائرات المقاتلة والمدفعية نحو 40 هدفاً لـ «حزب الله» خلال دقائق معدودة في عيتا الشعب وأن «من بين الأهداف مرافق التخزين والأسلحة والبنية التحتية للحزب»، ضجّتْ الكواليسُ السياسية بسؤال كبير: هل بدأت مرحلة جديدة من معارك الجنوب وهل خرجتْ بالكامل عن حدود «الحرب المحدودة» إلى المفتوحة بلا ضوابط، أم أن ما ارتسمَ بالنار هو في إطار تطويرٍ للمعارك التي ستشتدّ على دفعاتٍ مع «هدوء بين العواصف» يسابِقُ مساعي ديبلوماسيةً متجدّدة لفصْل جبهة الجنوب عن غزة أو أقلّه محاولة تطويع المواجهات وفق مقتضيات… إلى رفح دُر.
وفي حين جاء كلامُ وزير الدفاع الاسرائيلي يواف غالانت حول أن قواته «تقوم حالياً بعملياتٍ هجومية على جنوب لبنان بأكمله»، أقوى مؤشر إلى مرحلة جديدة دُشنت في سياق «حرب المشاغلة» التي أطلقها حزب الله في 8 أكتوبر الماضي، لم يكن ممكناً الجزم بما إذا كانت تل أبيب، تقترب فعلاً من «حرق المراكب» في المواجهة مع الحزب وتالياً الانغماس في «معركة الـ لا عودة»، أم أن تصعيدها يُشكّل «غطاء نارياً» للتحذيراتِ الخارجية التي يتوالى توجيهُها إلى بيروت وكبار المسؤولين من عدم وقف العمليات عبر الجنوب، وللضغط الذي يتزايد على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كي يحضّ الحزب على التقاط الفرصة التي مازالت متاحة ديبلوماسياً لتجنيب الجميع «الاصطدام المروّع».
وإذا كان التعبيرُ الأقرب عما يُراد تصويره على أنه قد يكون «المحاولة الأخيرة» لسحب فتيل الانفجار الكبير سيكون بوصول سيجورنيه إلى لبنان (في سياق جولة على المنطقة) غداً، لمناقشة «النسخة المنقّحة» من الورقة التي سبق أن قدّمها حول تنفيذ القرار 1701 على مراحل، فإنّ موقفاً بارزاً جرى التعاطي معه أيضاً على أنه من مؤشراتٍ «ديبلوماسية قرْع الطبول» وشكّله ما نُقِل عن مُساعِدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف لجهة أنّ «احتمالات التصعيد بين لبنان وإسرائيل حادة»، وأنّ «واشنطن استخدمت عدداً من القنوات وساعدت شركاءها في استخدام قنواتهم، المباشرة أو غير المباشرة مع حزب الله، للتحذير من الدخول في المعركة ومن اتساع الصراع»، وذلك بالتوازي مع تقارير عن أن الموفد الأميركي آموس هوكشتاين أبلغ إلى مسؤولين لبنانيين ضرورة عدم انتظار وقف الحرب في غزة للتهدئة جنوباً.
على أن أوساطاً مطلعة استوقفها نقطتان في كلام كل من غالانت وليف:
– الأولى إعلان غالانت أنه تم «القضاء على نصف قادة حزب الله في جنوب لبنان، والنصف الآخَر يختبئون ويتركون الميدان أمام عمليات قواتنا».
– والثاني إشارة ليف إلى أن «هناك بالتأكيد احتمالاً لخفض التصعيد» ثم «الانتقال في النهاية إلى جهد ديبلوماسي لترسيم الحدود».
وفي تقدير الأوساط المطلعة، أن موقف غالانت يَحتمل قراءته على أنه في سياقِ توفير «سلّمٍ» لتل أبيب للنزول عن الشجرة في المواجهة مع «حزب الله»، في الوقت المُناسب، على قاعدة «تكبير الأهداف» التي تحقّقتْ وتبرير عدم الحاجة للذهاب أبعد في حربٍ شاملة، وتالياً ليس بالضرورة أن يكون في إطار التمهيد لفتْح الجبهة مع الحزب ولبنان.وفي رأي هذه الأوساط، أن كلام ليف يكمل “الاحتمال الأول” في قراءة تصريح وزير الدفاع عن القضاء على نصف قادة “حزب الله” في الجنوب، على قاعدة أن ثمة محاولةً مستمرة للتخفيف من منسوب التصعيد جنوباً وتحذير الحزب من أي خطوات غير محسوبة في الوقت الذي بدأ ما يشي أنه العدّ العكسي لاجتياح رفح.وبحسب هذه الأوساط، لا يمكن تَصَوُّر أن اسرائيل التي “تشحذ السكاكين” لمهاجمة رفح، لديها الرغبة أو حتى القدرة على خوض حرب كبرى مع “حزب الله” في الوقت نفسه لعمليةٍ يُراد أن تكون الأخيرة قبل ترْك المجال أمام مساراتٍ للحلّ السياسي يتم إعدادُ أرضيتها لتحكم “اليوم التالي” في غزة و”أخواتها” من جبهاتٍ وفي مقدّمها الجنوب.
وفيما نفى مصدرٌ في «حزب الله»، كلام غالانت، مؤكداً أن عدد من سقطوا ممّن «هم بمسؤولية معيّنة» فيه «لا يتجاوز أصابع الكفّ الواحد» وأن ما قاله وزير الدفاع «لا قيمة له وهدفه رفع معنويات جيشه المنهار»، فإنّ الأوساطَ المطلعة نفسها تَعتبر أنه في ظلّ استبعاد الحرب الشاملة، فإنّ من غير الواقعية توقُّع أن تبدّل الضغوطُ الديبلوماسية لفصْل جبهة الجنوب عن غزة حرفاً في موقف الحزب الذي وجّه رسائل مباشرة عبر معادلة «عكا مقابل عدلون» وغيرها من الاستهدافات النوعية بأنه ماضٍ في «رفع التحدي» بإزاء كل تمادٍ اسرائيلي في محاولة فرض وقائع جديدة.
وترى الأوساط أن مهمة سيجورنيه «المكرَّرة» في بيروت، لن تخرج بأي جديد في ما سيسمعه، رغم تسريباتٍ عن عقوبات خارجية محتمَلة، ولا سيما في ظلّ ارتكازِ الورقة الفرنسية على «فصل الجبهات»، وهو ما سيعني إحراجاً أكبر للديبلوماسية الفرنسية التي تصاب لبنانياً بـ «خيبة تجرّ خيبة» في ظل حرص «الممانعة» على أن تشكل واشنطن «الخيمة» لأي تفاهماتٍ عندما تدق ساعتها.
يُذكر أن الورقةَ المنقّحة التي سيسلّمها الوزير الفرنسي إلى المسؤولين اللبنانيين بعد أسبوع على اللقاء الذي عقده الرئيس إيمانويل ماكرون مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في باريس، تتضمّن كما كشف موقع «لبنان 24» (محسوب على ميقاتي) ثلاثة بنود تُنفذ على ثلاث مراحل، وهي: وقف الأعمال الحربية على الحدود في المدى القريب، إعادة تموضع كل الجماعات بما فيها حزب الله وغيره من المجموعات من دون تحديد المسافة الجغرافية، وتثبيت الحدود بما فيها النقاط المتنازَع عليها وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وحل النزاع حول مزارع شبعا.
وفي موازاة ذلك، بدا الميدان جنوباً حتى عصر أمس، وكأنه في «استراحة ما بعد العاصفة» أو «هدوء ما بين عاصفتيْن»، حيث اقتصرت الاعتداءات الاسرائيلية على بعض الغارات في علما الشعب وبين هذه البلدة والناقورة، فيما أعلن الحزب عن عملية واحدة بعد الظهر استهدفت «انتشاراً لجنود العدو الإسرائيلي في محيط موقع الضهيرة بالأسلحة الصاروخية».
وكان الطيران الحربي الإسرائيلي شن بعد منتصف ليل الأربعاء – الخميس، 3 غارات متتالية على بلدة مارون الراس الحدودية.