جاء في “الراي الكويتية”:
فيما كانت هدنةُ غزة الشائكة أسيرةَ ساعاتٍ عصيبة من تموّجاتٍ وتقلّباتٍ تستنسخ تجاربَ سابقة، بحيث بدا من الصعب الجزم بمآلاتِ الديبلوماسية «المتعدّدة الجنسية» الرامية لانتزاع «الأشواك» من أمام بلوغ ولو «استراحة مُحارِب» علّها تؤسس لتهدئةٍ أكثر استدامة وربما الحلّ الدائم، وَقَفَ لبنان وكأنّه يتفرّجُ على عمليةٍ بالغة الدقة يَجْري تركيبُ قِطَعها في أكثر من عاصمة وعبر أكثر من قناةٍ ويجد نفسه معنياً بها من حيث يريد أو لا يريد بعدما «حَفَرَ» حزب الله منذ 8 أكتوبر الماضي وفي «الوعي واللاوعي» الداخلي والخارجي معادلةَ «وحدة المسار والمصير» بين جبهة الجنوب وغزة اللتين صار يربطهما «خط واحد» انفراجاً أو استمراراً في الانفجار المحدود (من ناحية حزب الله).
وفيما كانت الحركةُ الديبلوماسيةُ في المنطقة تبلغ أوْجها أمس، بهبوطِ كلٍّ من وزيريْ خارجية أميركا وفرنسا أنتوني بلينكن (زار الأردن قبلها) وستيفان سيجورنيه في إسرائيل غداة محادثاتٍ لكل منهما في الرياض مع عدد من القادة الخليجيين والعرب (على هامش الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي)، بدت بيروت وكأنها ترصد هذا الحِراك – الأقرب الى إعلان «حال الاستنفار القصوى» ديبلوماسياً – بصفة «مُراقِب»، خصوصاً بعدما تَعَمَّقت مظاهر تحوُّل السلطات الرسمية أشبه بـ «صندوقة بريد» أو «وسيط» بين المبعوثين الدوليين و«حزب الله»، وكان آخِرهم رأس الـ «كي دورسيه» الذي وضع المسؤولين في أجواء الصيغة المعدَّلة لخريطة الطريق التي تراها باريس مدخلاً لإنهاء التوتر على جبهة الجنوب وشقّ ممرّ لتطبيق القرار 1701.
وإذ انشدّ العالمُ إلى جوابٍ بدا وكأنه «يجوب» الغرفَ المغلقة والهواتف الحمر حول هل تَلِد الهدنة الثانية في غزة أم تتداعى فرصها في ربع الساعة الأخير، انهمكتْ بيروت في تحليل انعكاساتِ ما سيكون أو لن يكون، في ضوء مؤشراتٍ أبْقَتْ باب الحذر مفتوحاً من أي إفراطٍ في التفاؤل بإزاء مفاوضات التهدئة المضنية، لاسيما في ظلّ مواقف بنيامين نتنياهو أمس، والتي جاءتْ أقرب إلى «عبواتٍ» وإلى دعواتٍ لـ«حماس» لعدم الإقدام عليها على طريقة «تعا ولا تجي» وذلك عبر تَوَعُّدِه الحركة، التي تراجعتْ خطوة إلى الوراء، بأن أي هدنة لن تكون إلا لمزيد من التقدّم نحو «أهداف لا عودة» عنها وفي مقدّمها دخول رفح.
وبمعزل عن التفاصيل المعروفة للورقةِ الفرنسية المنقَّحة التي تسلّمها لبنان رسمياً أول من أمس وتنصّ على 3 مراحل والتي كانت أيضاً محور لقاءات سيجورنيه في تل أبيب، فإنّ «الغبار» الديبلوماسي الكثيف والذي انكفأت معه نسبياً في ساعات النهار العمليات العسكرية، لم يبدّد ثوابت «واضحة وضوح الشمس» وأبرزها:
• أنّ أي هدنة في غزة، بحال حصلتْ، لن تكون بالضرورة أكثر من تهدئةٍ من «جانب واحد» – هو حزب الله – على جبهة الجنوب، بعدما بلغتْ بيروت إشاراتٌ متجدّدةٌ إلى أن إسرائيل وكي توقف النار مع الحزب تريد ضماناتٍ مسبقةً بأن الأخير لن يعاود «حرب الإشغال» بعد أن تستأنف عملياتها في القطاع وضدّ حماس، وهو ما يستحيل أن يلتزم به الحزب الذي يرفع شعار «إن عدتم عدنا» والذي يرفض أن يقدّم ما يرى أنه «هدايا مجانية» ونهائية لتل أبيب على ميدان شديد التحرّك.
وبهذا المعنى يُخشى أن تكون تهدئةٌ في غزة فرصةً لنتنياهو لتركيز هجماته ضدّ «حزب الله»، وسط اعتقادٍ بأن معاودة «حماس – لبنان» شنّ عمليات من الجنوب على شمال إسرائيل، ناهيك عن إظهار الحزب قليلاً إضافياً من «الكثير» الذي يملكه عسكرياً ولم يكشفه بعد، هو في إطار ترسيمٍ مسبق لقواعد الاشتباك في أي مرحلةٍ تعمد فيها تل أبيب للفصل بين جبهة الجنوب وغزة في الهدنة المفترضة.
• أنّ أي وَقْفٍ من «حزب الله» للمواجهاتِ جنوباً هو «خارج النقاش» ما لم يتوقف إطلاق النار في غزة، وأن كل المحاولات الديبلوماسية (وحتى الأميركية عبر آموس هوكشتاين) لجعْل أي تهدئةٍ في القطاع، بحال التزمت إسرائيل بأن تشمل جبهة لبنان، منطلقاً لمسارٍ على قاعدة ما يشبه «التوقيع بالأحرف الأولى» من الحزب على ضماناتٍ ببلوغ «نهائياتٍ» سابق لأوانه، لأن هذا مربوط بإنهاء الحرب في غزة.
وإذ كان لافتاً في مَهمة سيجورنيه الجديدة، أنها تفيّأتْ المحاولةَ المتجددة لبلوغ هدنة في غزة، بما موّه عيْباً أساسياً شابَها في منطلقها منذ أن طُرحت بنسختها الأولى قبل أكثر من شهرين وهو فصل جبهة الجنوب عن الحرب في القطاع، فإنّ هوكشتاين الذي أحيطت زيارته لإسرائيل بكتمان شديد (وربما مازال فيها) والذي أضفى على مبادرته بعد أكثر من جولةِ استطلاعٍ واقعيةً ترتكز على ترابُطٍ تلقائي بين الجبهتين، بدا في مواكبته محاولات استيلاد تهدئة في غزة وكأنه يعمل على مساريْن متوازيين:
• الأول استشراف إمكان السير بخطته لحل مَمَرْحَلٍ، وأقلّه دفْع تل أبيب لترْك مجال كي تكون أي هدنة في القطاع مدخلاً لتنفيس جبهة الجنوب وإحداث كوة تتيح المزيد من النقاش «على البارد» حول الخطوات التالية الأكثر استدامة ومرتكزاتها.
• والثاني ألا يكون عدم الوصول إلى هدنة باباً لتصعيد إضافي على جبهة الجنوب وفق ما أشار إليه نَسَقُ العمليات المتبادلة في الأيام الماضية إذ بات «حزب الله» يقابل كل توسيعٍ اسرائيلي بتوسيعٍ «لا يحتاج إلى إذْن»، وذلك بما يَضمن محافظة هذه الجبهة على «الحبل الرفيع» الذي يسمح بالعودة إلى المسار السياسي للحلّ حين تنتهي حرب غزة ومن دون أن يكون الصِدام الكبير وَقَع لأن لملمةَ تداعياته أصعب بكثير لاسيما في الوقت الذي تقترب الولايات المتحدة من دخول مدار السِباق الرئاسي المحموم.