كتب منير الربيع في “المدن”:
ما قبل اندلاع عملية طوفان انطلاقاً من قطاع غزة، وفي أعقاب الانهيار المالي والاقتصادي والمؤسساتي والسياسي الذي يعيشه لبنان منذ سنوات، وتحديداً بعد تفجير مرفأ بيروت، سرت اعتقادات كثيرة على المستويين الإقليمي والدولي، بأن لبنان لم يعد دولة قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها. وفي ظل انعدام الإصلاحات والامتناع عن الانخراط في مشروع إصلاح سياسي جعل العالم والعرب ممتنعين عن تقديم أي مساعدات مالية واقتصادية، سرت معادلة خارجية للتعاطي مع لبنان على قاعدة “احتوائه إنسانياً”، من خلال تقديم المساعدات اللازمة لمنع المجاعة فيه.
تجلى ذلك بوضوح بعد تفجير مرفأ بيروت، ولا يزال مستمراً إلى اليوم. اذ أن معظم الدول تتعاطى مع لبنان كدولة قاصرة تحتاج إلى مساعدات إنسانية فقط.
لم يكن يبرز أي اهتمام دولي أو إقليمي في لبنان، على المستويات السياسية، إنما تركز الاهتمام في فترة المفاوضات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، علماً أن “الوعود” المقابلة لهذه التسوية تجلت في مطالبات لبنانية برفع “الحصار” والسماح بالحصول على الكهرباء والغاز من مصر والأردن، بالإضافة إلى السماح بالتنقيب عن النفط والغاز، والذي عاد وتعثر ولا يزال. عملياً، أي تطور في الجنوب هو الذي يستدعي الاهتمام الخارجي بلبنان. وهذا ما يتعزز منذ 8 تشرين الأول على خط أكثر من دولة غربية، إنطلاقاً من الحرص على توفير الأمن لإسرائيل.
وقعت الحرب على غزة، فانخرط لبنان في سياق الدفاع والمساندة، حتى ارتبطت الملفات ببعضهما البعض. فلا يمكن الوصول إلى حلّ في لبنان من دون الوصول إلى صيغة تسوية لوقف الحرب في غزة، وانتظار المشهد الذي سيرتسم بعد هذه الحرب. في المقابل، هناك حكومة إسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو يريد إطالة الحرب إلى أقصى فترة ممكنة، وإلى ما بعد الانتخابات الأميركية. كما يسعى إلى إحداث تغييرات استراتيجية في قطاع غزة وفي فلسطين ككل.
توازياً، ما يعلن عنه المسؤولون الإسرائيليون أيضاً، يرتبط بالسعي أو الطموح لتغيير الوقائع الأمنية والعسكرية في جنوب لبنان، من خلال مصطلحات متعددة، بعضها يطلق عليه إسم “منطقة عازلة” أو “آمنة” خالية من السلاح، من دون بروز تصور جدي وحقيقي لما سيكون عليه الوضع في المستقبل.
لا تمتلك إسرائيل أي تصور أو رؤية جدية لليوم التالي في غزة، كذلك هي لا تمتلك أي رؤية أو تصور لما سيكون عليه اليوم التالي في لبنان، في ظل عدم القدرة على تحقيق ذلك عسكرياً أو تنفيذ اجتياح برّي واسع، وبسبب الضغوط الأميركية والدولية الكبرى، لمنع تحول المواجهة مع حزب الله إلى حرب واسعة.
صحيح أن القوى الدولية ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية تعلن عن مبادرة هدفها إعادة الهدوء إلى جنوب لبنان، وإعادة السكان على الجانبين، ولكن ذلك مشروط بوقف الحرب على غزة، من دون توفر الظروف الأساسية أو الموضوعية لإلتزام الطرفين بالقرار 1701، وإذا ما سيكون ذلك قابلاً للتطبيق. دون ذلك، فإن التركيز الدولي على ضفتي لبنان وغزة هو التعاطي معهما باعتبارهما حالة إنسانية يجب احتواء تفاقم انهياراتها، وكأن لا حرب تشنّ ولا تهجير يحصل. علماً أن أي خروج من هذه الحالة لا بد أن يتصل باتفاقات كبرى.
تدفع هذه القراءات اللبنانيين إلى الانقسام على رأيين. أحدهما يقول إن لبنان يعيش حالة عراء كامل، وأن الحرب في غزة وكل التطورات على مستوى المنطقة، لا بد أن تنتج تغييراً كبيراً سيلفح لبنان لاحقاً. حينها سيكون على اللبنانيين الارتضاء والقبول بأي ثوب تتم حياكته خارجياً، لتفادي ما هو أسوأ وأعظم، عسكرياً، أو في مجالات مختلفة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. أما الرأي الآخر، فهو محاولة جهات عزل نفسها عن الـ”لبنان الكامل”، والذي يعتبرونه أنه في كنف حزب الله، ويدعون إلى حلّ الدولتين فيه.
وفي حال استمر التركيز عليه إعلامياً وسياسياً، وانتقل إلى مرحلة أخرى بالمعنى الميداني، أي حصول تحركات شعبية تطالب بمثل هذه العناوين، في إطار ممارسة المزيد من الضغط على حزب الله، رفضاً لما يسمونه سيطرته على البلد، وإمساكه بكل تلابيب المفاوضات السياسية والإقليمية.. فلا بد له أن يؤدي إلى المزيد من الانقسامات التي ستؤدي إلى ضعضعة “الجبهة الداخلية”، وسط اتهامات توجه للحزب بأنه يصادر الديموقراطية ويختطف البلد ومصيره.
هذا النوع من المواقف والتحركات في حال تفاقم فهو سيؤدي بلا شك إلى انكشاف الحزب أكثر، وقد يكون في بال جهات خارجية وداخلية إضعاف الحزب من هذه البوابة، بسحب المظلة الداخلية عنه، في سبيل إضعافه، ليكون مبرراً لتحركات خارجية لا تزال غير واضحة.