كتب مايز عبيد في “نداء الوطن”:
يتنامى في الشارع السنّي الشمالي خطابٌ هو أقرب إلى «حزب الله» من أي حزب آخر. أحداث غزة عزّزت هذا الخطاب بالتعاطف الذي يبديه الشارع السنّي بطبيعة الحال مع أهل غزّة بشكل أساسي والقضية الفلسطينية عموماً، بفعل الرابط الديني والعقائدي الذي يجمع المسلمين بهذه القضية المركزية.
لا شكّ في أنّ «الحزب» يحاول منذ سنوات اختراق الساحة السنيّة الشمالية، خصوصاً طرابلس وعكّار، إلى جانب المنية والضنيّة بدرجة أقل. منذ ما بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005 بدأ «الحزب» تقريب شخصيات دينية سنيّة إلى أجوائه، وحتى لو لم يكونوا من المرضيّ عنهم لدى دار الفتوى. كان يُقال حينذاك، أنّ «حزب الله» يريد من هذه الشخصيات عمائمها كي تظهر في مهرجاناته، وتؤيد خطابه وتوجهاته مقابل العمامات الأخرى المحسوبة على «المستقبل» وقوى 14 آذار. ومع ذلك، بقي حضور «الحزب» في الشمال خجولاً، إلى أن دخل لبنان في أزمة اقتصادية وتراجعت الأوضاع المعيشية لدى الناس. استغلّ «الحزب» الظرف ودخل عكّار وطرابلس والمنية، تحت غطاء المساعدات.
حدثٌ آخر دفع بـ»حزب الله» إلى تزخيم العمل في الساحة السنيّة تمثّل بخروج سعد الحريري من الحياة السياسية، أو كما سمّاه تعليق العمل السياسي. خرج الحريري من الساحة فتمدّد «الحزب» فيها أكثر فأكثر نحو شخصيات وبلديات ومؤسسات ومخاتير وفاعليات، لتصبح البيئة السنّية التي كانت ترفضه بالكامل قبل سنوات، تتعامل معه كحزب لبناني أتى ليساعدها.
«طوفان الأقصى»
أتت معركة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل بالنسبة إلى «الحزب» على طبق من فضّة. فالشارع السنّي الذي يُناصر من دون أدنى شك القضية الفلسطينية، سيتعاطف مع المقاومة الفلسطينية وكلّ من يساندها. وبالفعل، ارتفعت أسهم «الحزب» في الشارع السنّي الشمالي. على الخط عينه تماهت «الجماعة الإسلامية» معه في الموقف والرؤية وقطف ثمار «الطوفان» داخلياً. فـ»الجماعة» التي كادت تتراجع سياسيّاً وشعبياً وسط تنامي «تيار المستقبل»، عادت إلى الساحة بقوّة، مستفيدة من أحداث غزة، والتعاطف الكبير مع «حماس» التي تجمعها بها العقيدة الحزبية.
غياب «المستقبل» عن السّاحة، وتراجع أداء قياداته في المناطق السنّية، تحاول «الجماعة الإسلامية» اليوم تعويضهما بحضور مسلّح من بوابة الجنوب، وبخطاب ديني يشدّ العصب. استطاعت بالفعل التوطئة لحضورها أكثر وعزّزت ذلك، مستفيدة من عاطفة سنّية عارمة تجاه غزّة وفلسطين، ومن حاجة المناطق السنيّة إلى قيادة، ولا سيّما الجمهور الواسع من الشباب الذين يتعاطفون مع القضية بالفطرة وتجذبهم الخطابات والمواقف التي تدافع عنها. النسبة الكبرى من هذا الشباب لم تسمع عن «قوّات الفجر» في السابق، وبالأخص قبل أحداث 7 أكتوبر. لكنّ قسماً كبيراً منهم يحاول الإنخراط في صفوفها، بهدف محاربة إسرائيل، حتى أنّ مصدراً في «الجماعة الإسلامية» يؤكد لـ»نداء الوطن» أنّ هناك العشرات من مقاتلي «الفجر» هم من شباب عكّار وطرابلس.
إلى ذلك، يعلم الشارع السنّي الشمالي أنّ «قوات الفجر» ما كان لها أن تقاتل في الجنوب أو أن تضرب صاروخاً واحداً، لولا موافقة «حزب الله»، لكنّ اليوم ليس كما الأمس. في السنوات الماضية، تجنّد العشرات من شبّان المنطقة في ما سمّي وقتها «أنصار المستقبل» في مراكز تدريب في طرابلس وعكّار وغيرها من المناطق، بهدف التسلّح والتدريب لمواجهة أي خطر يشكّله «حزب الله» ضدّ الجمهور السنّي الرافض سياساته. أتت أحداث السابع من أيار 2008، فانقضّ «الحزب» على هذه المراكز جميعها. انعكس المشهد تماماً بعد السابع من تشرين الأول، فبات شباب السنّة يتجنّدون في «سرايا المقاومة» ولدى «قوّات الفجر». بالطبع لا تنفي قيادات «الجماعة» التنسيق العسكري والميداني مع «الحزب» طالما أنّها تقاتل على الأرض نفسها، لكنها تنفي أنّها تتلقى أوامرها المتعلّقة بدورها الميداني من قيادة «الحزب».
وفي هذا السياق، يقول مصدر شمالي متابع لشؤون الأحزاب الإسلامية، إنّ حاجة «حزب الله» و»الجماعة الإسلامية» لبعضهما البعض كانت متبادلة. فـ»الحزب» يحتاج إلى فصيلٍ سني، ليبدّد مقولة إنه يأخذ البلاد إلى مغامرة القتال بمفرده، ويقرر عن بقية اللبنانيين، ولا تشاطره باقي الطوائف هذا التوجّه. في حين أنّ «الجماعة» وجدت في استعادة زمام النار من الجنوب، فرصة لاستعادة الأرضية الشعبية في مناطق طالما كان حضورها بارزاً فيها نيابياً وشعبياً في السابق.
تشييع ببنين
لا يزال الظهور المسلّح لـ»الجماعة» في تشييع شهيديها في ببنين عكار قبل أيام يحتلّ قائمة المتابعة. فـ»الجماعة» العائدة بقوة إلى الساحة، أصبح لديها أعضاء في المجلس الشرعي الأعلى، الذي كان في السابق حكراً على «تيار المستقبل» ومفتي الجمهورية. ثمّة من يبرّر هذا الظهور المسلّح باعتبار أنه يحصل بشكل دائم في مثل هذه المناسبات، وثمة من يرى أنه كان يفضّل ألا تظهر بهذا الشكل، وهناك من يعتبر أنّ هذا النموذج هو ما يريد «حزب الله» تعميمه في البيئة السنيّة.
في المقابل ثمّة من يعتبر أنّ الخطاب السنّي الذي كان يمثّله سعد الحريري هو القادر على تغيير المعادلة داخل البيئة السنّية، نحو خطابٍ أكثر اعتدالاً، لكن ما دام «تيار المستقبل» يتراجع فإنّ الخطاب الآخر سيتمدّد، إلى حين موعد الإستحقاق الإنتخابي، وعندها قد تحصد «الجماعة الإسلامية» وحلفاؤها نواباً إضافيين في هذه المناطق، وعندها لن يعود بمقدور سعد الحريري الذي قال في آخر زيارة له للبنان «إذا وجدت البلد يسير نحو التطرّف فعندها أتدخّل»، ولا غيره أن يفعل شيئاً. هذا المشهد ليس ببعيد عن تصوّر النواب السنّة الشماليين الحاليين، لذلك تراهم يحرصون في الآونة الأخيرة، على مشاركة «الجماعة» في كل فعالياتها، ويطبّقون سياسة ربط النزاع مع «حزب الله».