كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
في 7 أيار 2008 ردّ «حزب الله» على 14 آذار 2005. منذ ذلك اليوم، الذي اعتبر أمين عام «الحزب» السيد حسن نصرالله أنه «يوم مجيد»، بدأت حركة المعارضة بالتراجع وهي لا تزال. راهن بعض أركان تلك المعارضة على احتمال الإلتقاء على الحدّ الأدنى من القضايا الأساسية التي تحكم الحياة السياسية مع «حزب الله». ولكن «الحزب» كان مستمرّاً في سلوك اتجاه آخر وصولاً إلى تطبيق قاعدة اعتمدها وهي أنّ «السلاح يحمي السلاح». وهذه القاعدة لا تزال ثابتة لديه.
عملية 7 أيار التي نفّذها «حزب الله» في بيروت وعاليه والشوف استهدفت ركنين من أركان المعارضة هما «تيّار المستقبل» ورئيسه الرئيس سعد الحريري، و»الحزب التقدمي الإشتراكي» ورئيسه وليد جنبلاط. لم يتوقّف «الحزب» عند الآثار المدمّرة للبنية السياسية الداخلية وهو منذ قبل ذلك التاريخ، ومنذ تأسيسه، لا يزال يلجأ إلى القاعدة نفسها مستفيداً من عامل أساسي وهو أنّه الطرف الوحيد الذي يمتلك هذا السلاح. حتى داخل الطائفة الشيعية لم يشذّ عن القاعدة. وكانت التجربة الأولى التي طبّقها فيها عندما لم تردعه أي اعتبارات عن الهجوم على «حركة أمل» في حرب استمرّت على مدى أعوام وانتهت عام 1990 بتكريس دوره العسكري على الأرض باتفاق في دمشق رعته إيران مع النظام السوري الذي كان لا يزال برئاسة الرئيس حافظ الأسد.
وهو لم يتوان في العام 2005 عن استخدام قدراته الأمنية والإستخباراتية والعسكرية لتوجيه ضربة قاتلة إلى الطائفة السنيّة عبر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كان «الحزب» يريد منع تطبيق القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004 والمطالب بسحب الجيش السوري من لبنان وبنزع سلاحه وانتخاب رئيس للجمهورية غير الرئيس إميل لحود. «الحزب» الذي اعتبر مع النظام السوري أنّ هذا القرار لا يساوي قيمة الحبر الذي كُتِب فيه، بدأ منذ ذلك التاريخ سلسلة حروب لمنع تطبيقه من خلال تنفيذ سلسلة اغتيالات وصولاً إلى استخدام السلاح.
إغتيال الحريري و14 آذار
على عكس ما أراده «الحزب» ارتدّ اغتيال الحريري عليه سلباً. حاول في تظاهرة شعبية أطلّ فيها أمينه العام من ساحة رياض الصلح في 8 آذار 2005 منع سحب الجيش السوري من لبنان بعدما كان رئيس النظام بشّار الأسد أعلن في 5 آذار أنه سيسحب هذا الجيش. ولكن الردّ عليه جاء في تظاهرة 14 آذار التي طالبت بالحرية والسيادة والإستقلال، وفرضت تنفيذ الشقّ المتعلّق بانسحاب الجيش السوري من دون المخاطرة في التوجّه نحو المطالبة بتنفيذ الشقّ المتعلّق بسلاح «الحزب». تلك كانت الخطوة الأولى في تراجع قوة هذه المعارضة التي ولدت على مراحل، وهذا التراجع هو الذي قاد تباعاً إلى ما تشهده هذه المعارضة اليوم.
حاول «حزب الله» إنقاذ نفسه. انحنى بداية أمام زخم الحركة الدولية التي التقت مع زخم الحركة الداخلية المعارضة له. وأدّى هذا الإنحناء إلى حصول قوى 14 آذار على الأكثرية النيابية في انتخابات صيف 2005 وتشكيل حكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة استطاعت في ظلّ استمرار الرئيس إميل لحود في قصر بعبدا مواكبة قراري مجلس الأمن الدولي تشكيل لجنة التحقيق الدولية وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس الحريري.
حرب تموز والتخوين و7 أيار
مع استمرار عمليات الإغتيال، ذهب «الحزب» في 12 تموز 2006 إلى حرب مع إسرائيل استمرت شهراً كاملاً وانتهت بصدور القرار 1701 الذي أكّد على القرار 1559 نزع سلاح «الحزب»، وعلى ضرورة استعادة الحكومة اللبنانية سلطتها على كامل أراضيها وعلى زيادة عدد القوات الدولية والجيش اللبناني في الجنوب، وحماية الحدود البرية والبحرية والجوية. ولكن ما حصل في القرار 1559 حصل مع هذا القرار، حيث احتفظ «الحزب» بسلاحه وعمل على مستويين: تخوين قوى 14 آذار وزيادة قدراته العسكرية والتسليحية، ووصل به الأمر إلى تجاوز كل الخطوط الحمر في غزوة 7 أيار 2008 التي أراد من خلالها القضاء على أيّ معارضة سنيّة فكانت الضربة لـ»تيار المستقبل» ورئيسه سعد الحريري، وعلى أيّ معارضة درزية بعد محاولة اقتحام عاليه والشوف وصولاً إلى قصر المختارة بعد محاصرة رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وقتها وليد جنبلاط في منزله في كليمنصو، الأمر الذي استدعى تراجع الحكومة عن قرار إزالة شبكة الهاتف الخاصة بالحزب. نتيجة هذه الضربات بقيت المعارضة المتمثلة بـ»القوات اللبنانية» وعدد من الشخصيات الفاعلة من مختلف الطوائف، تمثّل عصب القوى المناهضة للحزب الذي اعتبر أنّه قام بعملية احتواء واختراق كبرى لها من خلال التفاهم الذي عقده مع رئيس «التيّار الوطنيّ الحرّ» العماد ميشال عون في كنيسة مار مخايل في الشياح في 6 شباط 2006.
منذ العام 2011 انخرط «الحزب» ولا يزال في الحرب في سوريا دفاعاً عن رئيس النظام بشّار الأسد. ومنذ 8 تشرين الأول يخوض «حرب المشاغلة» في الجنوب مع إسرائيل دعماً لحركة «حماس» في غزة معرّضاً لبنان لخطر الإنزلاق في حرب مدمرة تفوق في خطورتها نتائج حرب تموز 2006. ونتيجة هذه المغامرة الجديدة كان «مؤتمر معراب» تحت عنوان «1701… دفاعاً عن لبنان» من أجل المطالبة بتطبيق هذا القرار. على رغم تحفظات أطراف في المعارضة على طريقة عقد هذا المؤتمر ومكانه والبيان الذي صدر عنه، إلا أنه خلق ردود فعل غاضبة لدى «حزب الله» عبرت عن انزعاج كبير منه ومن «القوات اللبنانية».
مغامرة المعارضة عام 2005
بعض الملاحظات حول هذا المؤتمر ذهبت إلى التشبيه بينه وبين حركة المعارضة قبل العام 2005، للقول إن تلك المعارضة كانت أنجح وأنجع، ولكنّ الظروف بين المرحلتين مختلفة تماماً. لم تولد معارضة 2005 في لحظة واحدة بل بُنيت على مراحل، وكان عمادها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير ومعه «القوات اللبنانية»، التي كان صدر قرار بحلّها واعتُقِل رئيسها سمير جعجع في 21 نيسان 1994، وقوى مسيحية أساسية التقت في «لقاء قرنة شهوان» الذي رعاه صفير ورأسه المطران يوسف بشارة، والرئيس رفيق الحريري والوزير وليد جنبلاط. هذا المسار بدأ منذ العام 1998 قبل انتخاب قائد الجيش العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية وكان بات واضحاً أنّ المحور المؤيّد له المحيط برئيس النظام حافظ الأسد أخذ قراره بهذا الأمر.
في أول آذار 1998 تجرّأ وليد جنبلاط وقال في حديث إلى مجلة «المسيرة» التي تمثّل حزب «القوات» الملاحق والمنحلّ: «انفتاحي على المسيحيين استراتيجي» و»أنا لا أناور… وكلنا بالهوا سوا». جنبلاط قال يومها: «خرجت من الخندق واستشرت قناعتي وقرّرت». واستذكر كيف أنّ «كمال جنبلاط غامر والتقى ألدّ أعدائه بشير الجميل في آذار 1976 ولكن ظروف تلك المرحلة الدولية منعت أن يكون لذلك اللقاء نتيجة»، مضيفاً: «السياسة تحتاج إلى شويّة خيال ومغامرة وأنا أغامر الآن». لم ينكر جنبلاط وقتها مسألة أن «المسيحيين يشكّكون في أهدافي ويعتقدون أنّني قد أتراجع عن مواقفي» وطلب وقتاً ليثبت صدق توجهاته وقال: «أعرف أنّ رسائل كثيرة ستصلني وأنّ الدكتيلو سيتحرّك وسيعتبرون حواري مع المسيرة مؤامرة كبرى» وكان يقصد طبعاً الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية.
عندما تجرّأ جنبلاط وأيّد صفير
في العام 2000 بعد انسحاب إسرائيل من لبنان وبعد وفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد، وبعد صدور نداء المطارنة الموارنة من بكركي في 20 أيلول، لم يتوانَ جنبلاط عن السير في ما ذهب إليه هذا النداء الذي طالب بسحب الجيش السوري من لبنان وتطبيق الطائف نصّاً وروحاً. ولذلك تمّ تخوينه وتهديده بالقتل داخل مجلس النواب وخارجه. نتائج انتخابات العام 2000 النيابية شكّلت نقطة تحوّل في علاقة الحليفين جنبلاط والحريري مع النظام السوري بعد الفوز الذي حقّقاه فيها فاحتكرا التمثيل السني والدرزي وأسقطا من لوائحهما ما سمّياه الودائع السورية. ولكن أحداث 11 أيلول 2001 التي هزّت أميركا عدّلت في روزنامة الأحداث فانكفأ جنبلاط وتراجع. هذا التراجع بدأ ينتهي مع العام 2003 مع بدء اجتماعات للمعارضة في بيروت حاذر الرئيس رفيق الحريري بداية أن يرسل من يمثّله إليها قبل أن تعود لهجة جنبلاط إلى الإرتفاع مع اقتراب موعد التمديد للرئيس لحود واستدعاء الرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري إلى دمشق لفرض التمديد، وتهديد الأسد للحريري علناً بهدم لبنان على رأسه ورأس جنبلاط. كل تلك التطورات خلقت الظروف المؤاتية لذروة ما بلغته المعارضة في 14 آذار 2005. سلاح «الحزب» و7 أيار
بعد حرب تموز 2006 حاول «حزب الله» استعادة المبادرة في حرب معاكسة في الداخل. نفّذ تهديداته في 7 أيار 2008. منذ ذلك التاريخ بدأت المعارضة التراجع تحت ضغط سلاح الحزب. خرج جنبلاط إلى خط وسط. اختار الرئيس سعد الحريري ربط النزاع مع الحزب قبل أن يعلن تعليق العمل السياسي. معارضة 2005 احتاجت خمسة أعوام وأحداثا كبرى للتبلور. نجحت على مدى ثلاثة أعوام. معارضة 2024 تحتاج إلى مسار جديد حتى تستطيع استعادة حضورها وإنهاء مرحلة الترهّل وخروج الخارجين منها والمتردّدين من مرحلة الخوف من الحزب، وبالتالي الحسم بين عدم التنازل أمام الحزب وعدم المواجهة معه. «مؤتمر معراب» يمكن أن يكون خطوة في هذا الإتجاه بين المزايدين عليه والخائفين من مواكبته. ثمة مسار يجب أن يبدأ ولكنّه يحتاج إلى مغامرة جديدة ولو كانت محفوفة بالمخاطر.
عام 2004 خاطر جنبلاط وزار ستريدا جعجع في يسوع الملك. وغامر الرئيس رفيق الحريري واتصل بها معايداً وأرسل من يمثّله إلى لقاء المعارضة في البريستول. هل لا يزال هناك اليوم في معارضة 2024 مكان لمثل هذه المخاطرة بينما لا يزال هناك مكان للقتل؟ وماذا يمكن أن تفعل هذه المعارضة بعد غياب البطريرك صفير واغتيال الرئيس رفيق الحريري وانكفاء وليد جنبلاط وابتعاد سعد الحريري؟