كتب منير الربيع في “المدن”:
تحتاج قراءة الواقع الإسرائيلي إلى النظر من زوايا مختلفة، لتكوين صورة أوضح حول الخلافات والصراعات القائمة داخل اسرائيل، وبين مكونات اجتماعية وسياسية مختلفة، والتباين في وجهات النظر بين الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بعدما أعلن الأميركيون عن تعليق شحنات أسلحة إلى إسرائيل، بسبب التصادم في الرؤى حول آلية وكيفية استكمال الحرب على غزة وخوض معركة رفح.
إنها المرّة الأولى التي تصل فيها العلاقات بين الجانبين إلى هذا الحدّ منذ العام 1956، علماً أنه في حينها كانت اسرائيل ترتكز عسكرياً وتسليحياً على بريطانيا وفرنسا، وليس على الولايات المتحدة الأميركية.
الحسابات الانتخابية
سينجم عن هذه الخلافات والتباينات صراعات كثيرة، أبرزها حملات يقودها الإسرائيليون حول “تخلّي” أميركا عنهم، واتهام واشنطن بأنها نصبت فخاً لإسرائيل، عندما تم تعديل ورقة اتفاق الهدنة الإنسانية أو وقف اطلاق النار، وصولاً إلى إعلان بايدن بنفسه عن وقف الأسلحة في حال أصر الإسرائيليون على خوض معركة رفح، واستهداف الأحياء المدنية والسكان. علماً أن حرب نتنياهو في الأساس هي على المدنيين بهدف تهجيرهم وتغيير ديمغرافية القطاع وفلسطين ككل. وهو كان قد أعلن مسبقاً عن التفاوض مع دول عديدة لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم من غزة.
بايدن، المحكوم بحساباته الانتخابية، كل ما يريده هو تظهير انتصار لنفسه، من خلال إطلاق سراح عدد من الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس، من حملة الجنسية الأميركية، والتقاط الصور التذكارية معهم، احتفاء بعودتهم سالمين إلى مطار جورج واشنطن.
الوقوع في أسر الحسابات الانتخابية دفعه أيضاً إلى التناقض في مواقف كثيرة، منذ إعلان الدعم المطلق لإسرائيل وإنشاء الجسر الجوي، وصولاً إلى وصف ما جرى في 7 تشرين الأول بأنه الأفظع منذ المحرقة التي تعرض لها اليهود في اوروبا. فهو بذلك يحاول أن يوازن بين مواقفه. بينما تتركز عليه الحملات الإسرائيلية واليهودية من خلال اتهامه بالتخلي عن حليفته الأساسية والاستراتيجية، على الرغم من كل الدعم الذي منحه لها. تتركز الحملة الإسرائيلية ضد الإدارة الأميركية أيضاً، على أن بايدن يسعى إلى التقارب مع إيران، وأنه يميل إلى وجهة نظر 5 بالمئة أو أكثر بقليل من أصحاب الرأي في الحزب الديمقراطي.. لتتعاظم الحملة المركزة التي تشير إلى أن بايدن والحزب الديمقراطي سيخسران الانتخابات.
الانقسامات المتوالية
قبل عملية طوفان الأقصى، كانت إسرائيل تعيش أسوأ أزمة داخلية هددت الأسس القضائية والنظام السياسي، بما يعبّر عن انقسامات متوالية في المجتمع. هذه الأزمة مستمرة بمعناها السياسي من خلال بعض المواقف لقوى سياسية داخل اسرائيل، والتي يتم تظهيرها عبر مواقف معارضي نتنياهو، كيائير لابيد، إيهود باراك، ونفتالي بينيت، وأفيغدور ليبرمان. بالإضافة إلى الخلافات بين نتنياهو ووزراء حكومته. ولا يمكن إغفال التظاهرات اليومية التي تشهدها تل أبيب والقدس احتجاجاً على مواصلة الحرب، والمطالبة بالوصول إلى صفقة لإطلاق سراح الأسرى.
من منظور آخر، لا بد من ملاحظة بعض استطلاعات الرأي، التي تشير إلى أن غالبية الإسرائيليين تؤيد استمرار الحرب، وأن الغالبية أيضاً تتجه أكثر نحو اليمين واليمين المتطرف، إلى حدود لم يعد بني غانتس أو غادي إيزنكوت قادرين على تجاوز مسألة مواصلة القتال، بل هما يضطران إلى المزايدة على نتنياهو. وهو ما تجلى في رفض الاستجابة لموافقة حركة حماس على مقترح الصفقة. إذ أقرت حكومة الحرب مواصلة العملية العسكرية في رفح بالإجماع، بينما خفتت أصوات بينيت، وباراك وليبرمان، ليبقى يائير لابيد وحده الذي يهاجم نتنياهو.
المخاطر على الجبهات
هذا الجو يشير إلى المزيد من الخطر في المرحلة المقبلة، على غزة، والضفة الغربية، ولبنان. خصوصاً أن الجبهة اللبنانية تزداد سخونة بالمعنى الفعلي، وليس فقط بالأصوات المتعالية بين فترة وأخرى لمسؤولين إسرائيليين، يهددون بتنفيذ عملية عسكرية أو حرب على حزب الله منذ الأيام الأولى لاندلاع المواجهة. وهو ما تحول إلى مادة للسخرية في الداخل الإسرائيلي. أخطر ما في هذا الأمر، هو ما يعلنه الكثير من مسؤولي وسكان المستوطنات الشمالية، الذين يطالبون بالحرب والتصعيد، وأنهم لا يثقون بأي اتفاق ديبلوماسي يمكن إبرامه ليعودوا إلى منازلهم.
هذا ما لا يمكن الاستخفاف به، إلى جانب النتائج التي نجح حزب الله بتحقيقها، من خلال تكريس عملية تهجير سكان هذه المستوطنات، بشكل يعكس صورة إسرائيل التي كانت دوماً تهجّر ولا تتهجر. هذا الواقع يشكل المزيد من العناصر الضاغطة على نتنياهو وعلى غالبية المسؤولين الإسرائيليين. خصوصاً أن تحركات كثيرة تنشأ وتنشط في سبيل تشكيل جو عام ضاغط يهدف إلى شن الحرب على لبنان، ولكن من دون الإجابة على أي سؤال يتعلق بأهداف هذه الحرب، ومداها، وإذا كان هناك قدرة اسرائيلية لتحقيق الأهداف المراد تحقيقها.
على وقع كل هذه الأجواء الضاغطة، ترد في الإعلام الإسرائيلي أخبار عن إعلان بعض مسؤولي المستوطنات الإنفصال عن إسرائيل وإعلان دولة الشمال. ما من شأنه أن يفرض مزيداً من التحدي والضغوط على الحكومة الإسرائيلية، في محاولة لاستدراجها إلى حرب جديدة، على قاعدة تهديدها من الداخل.
جزء من هذا الخطر الذي ينظر إليه الإسرائيليون، يقابله في لبنان أيضاً أجزاء كثيرة من الانهيار والاهتراء والتداعي، من دون توفير رؤية سياسية جامعة للالتفاف حول “أسس الدولة الواحدة”، وسط صرخات كثيرة تطالب أيضاً بإعلان دولتين.