كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
أكثر من نصف سنة مضت على «طوفان الأقصى»، الذي لطمت أمواجه الجبهة الجنوبية. توالت الأيام وهي الأطول في تاريخ الحروب المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل من جهة وبين الأخيرة ولبنان من جهة أخرى. والفترة مرشّحة للتمديد. مواسم وفصول وأعياد أتت ثمّ رحلت خالية الوفاض من أي بهجة أو حصاد.
وحدها المعارك تطوف وتستفحل في القرى، تملأ فراغها. شريط من اللهيب يلفّ رأس الناقورة حتّى أعالي كفرشوبا، تختلف درجات سخونته من بلدة إلى أخرى حسب موقعها الميداني وحركة المقاتلين فيها وأهداف إسرائيل. أمّا الخاسر الأكبر والحلقة الأضعف فهم الأهالي، الصامدون منهم والمغلوب على أمرهم في آن، حيث لا صفّارات إنذار تُنذرهم ولا ملاجئ محصّنة تأويهم ولا مؤشرات اقتصادية تُبشّر بإعادة الإعمار ودفع التعويضات. كأنهم في العراء، فالبقاء مخاطرة كبرى والرحيل يُشبه إنفصال الروح عن الجسد.
بلدات وقرى كانت تتستّر بهنائها وسكينتها في أقصى أطراف الخارطة المنزوفة. لم يكن يعنيها سوى ما تعطيها الأرض من خيرات. أن يعود أبناؤها من موظّفين وعسكريين وأساتذة إلى منازلهم والمشاركة في أفراحهم وأتراحهم، وانتظار مغتربيهم بلهفة عندما تدقّ أجراس الصّيف. لم تفكّر يوماً في نيل أي شهرة بأن يُتداول بأسمائها عبر وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، وأن تتناقلها الوكالات الأجنبية. لكن «ساحات المشاغلة والإسناد» رمتها في قلب الحدث والنّار.
في القطاع الغربي، حيث الشمس تغيب وراء ذاك الأفق الأزرق الجميل، تقع بلدة الناقورة المعروفة سياحيّاً بشاطئها الفيروزيّ الصّافي وطبيعتها البحرية الخلّابة، ووجود المقرّ العام للقوات الدولية التابعة للأمم المتحدة. تُقابلها ثلاثة مواقع عسكرية إسرائيلية: رأس الناقورة، اللبّونة وجلّ العلام. عبث «الطوفان» ببحرها، أكثر من 30 وحدة سكنية دُمّرت بالكامل، وحوالى 70 بشكل جزئي، ليتخطّى حجم الأضرار الـ80%. معظم سكّانها نزحوا باتجاه صور وبيروت. أما الباقون وهم قلّة فيصفهم رئيس بلدية الناقورة عبّاس عواضة وهو واحد منهم، بـ»العنيدين»، مشيراً إلى أنّ بعضهم لا يزالون يركبون البحر فجراً قبل أن تستيقظ المدافع والمسيّرات، بحثاً عن أرزاقهم، فهم يعايشون المخاطر، مهنتم مغامرة بحدّ ذاتها. أمّا بساتين الحمضيات والموز والخضار التي تشتهر بها الناقورة، فأغلقت أبوابها، ضاعت المواسم، سقطت أرضاً «على أمّها»، كما يقال في قاموس المزارعين والقرويين. في حين تتولّى القذائف «الفوسفورية» والحارقة، إلتهام ما تبقى من مساحات حرجية واسعة عند الحدود في اللبّونة جنوب الناقورة.
إلى جارتها علما الشعب، حيث لا يمرّ يوم من دون غارات واستهدافات. أكثر من 10 منازل دُمرّت بشكل كامل حتى كتابة هذه السطور، وبعضها قُصف أكثر من مرّة. ومع كل اعتداء يتقلّص عدد المقيمين فيها. أكثر من 800 شجرة زيتون إضافة إلى «الأفوكا» و»القشطة» وغيرها من الأشجار المثمرة، قد احترقت جرّاء القصف الذي حصد معه مواسمها كافة.
الضهيرة وعرب العرامشة: شعب واحد بين حدودين
للحروب مخالبها وويلاتها الكبيرة، لكنّها تُضيء في أحد جوانبها على بعض القضايا المنسية. عندما استهدف «حزب الله» مركزاً عسكريّاً إسرائيليّاً في بلدة عرب العرامشة منتصف الشهر الفائت والذي شكّل صدمة في الأوساط الإسرائيلية، سُلّط الضوء على «أشقاء» أهل الضهيرة، أي عرب العرامشة، الذين سكنوا بلدة «جرادة» أو «جردية» وهي قرية بدوية الأصل، فُصلت عن بلدتها الأمّ الضهيرة مطلع القرن العشرين مع اتفاقية «سايكس بيكو»، وشطرها خطّا الهدنة (1949) والأزرق (2000) عقب الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان إلى قسمين، رغم وحدة الأصل والنسب. فأهل الضهيرة وجردية ينتمون إلى عشيرة واحدة المعروفة بـ»عرب العرامشة». أمّا القرى المحيطة بها أي: يارين، مروحين – أم التوت، الزلوطية والبستان، فينتمي أهلها إلى عشيرة أو عرب «القليطات».
بالعودة إلى واقعها الميداني، يشير رئيس بلديتها عبدالله الغريّب إلى أنّ حوالى 17 وحدة سكنية قد دُمرّت بالكامل و23 بشكلٍ جزئيّ. ناهيك عن الحرائق الكبيرة التي لحقت بالبساتين والأحراج. وما يخشاه أنه إذا استمرت المعارك حتّى الصيف، فسنشهد حرائق طبيعية إلى جانب الأسباب العسكرية، ما يهدّد بالقضاء على كلّ ما تبقّى من ثروة حرجية. وتُعد الضهيرة من القرى التي تتعرّض للقصف اليومي والكثيف، إذ يقابلها في الجهة الإسرائيلية موقع «جرادة»، مركز «حدب يارين» و»بركة ريشا».
يستند أهالي الضهيرة في معيشتهم الى زراعة التبغ والزيتون والحبوب وتربية المواشي. ضاعت أرزاقهم ولم يتمكّنوا لا من الزرع ولا من الحصاد، حتى موسم الزيتون الذي تزامن قطافه مع انطلاق حرب «7 أكتوبر» قد فقدوا إنتاجه ومردوده المادّي والتموّيني. أما الذين قرّروا البقاء في البلدة، فلفت رئيس البلدية إلى أن عددهم لا يتخطّى أصابع اليد وهم من كبار السنّ. في حين أنّ عدد سكان الضهيرة المقيمين بشكل دائم قبل الأزمة فكان يبلغ نحو 2150 شخصاً. نزحوا بشكل أساسي إلى منطقة صور وبعضهم إلى صيدا ويتوزّعون على مدارس وجامعات وأماكن اللجوء. ما يتمنّاه رئيس البلدية وكل أهل الضهيرة هو انتهاء الحرب، مؤكّداً «أننا سنعود إلى بلدتنا وترابنا وربوعنا في اللحظة الأولى، حتى لو أخذنا أفياء السنديان مسكناً لنا».
على هذا الخط الساخن، تقع مروحين. البلدة التي دفعت دماءً ذكيّة في حرب تمّوز (2006)، فقدمت 23 ضحية غالبيتهم من الأطفال والنساء جرّاء غارة استهدفت سيارة الـ»بيك آب» التي كانت تقلهم باتجاه الناقورة – صور. هذا المشهد لم يغب يوماً عن ذاكرة أهلها، الذين نزحوا جميعهم مع بداية حرب المشاغلة عقب السابع من تشرين الأوّل. ارتبط اسمها بجبل بلاط، تُقابله مستوطنة زرعيت، القائمة على أرض بلدة طربيخا، إحدى القرى اللبنانية السبع. تُواصل الغارات الإسرائيلية والقصف المدفعي استهداف المنازل بشكل كثيف، فدُمّر حتى الآن أكثر من 50 بيتاً. جميع أهلها الذين يبلغون حوالى الـ3 آلاف شخصٍ نزحوا إلى منطقة صور، يتوزّعون على مدارس ومعاهد صور وبرج الشمالي، إضافة إلى منازل مستأجرة ومراكز إيواء. حالها حال أمّ التوت والبستان وزلوطة ويارين ورامية، سلسلة من القرى المتشابكة نَسَباً وجيرةً وطيبةً باتت كلّها خالية من السكان، والحجر إلى تناقصٍ يوماً بعد يوم.
إلى القوزح، البلدة الصغيرة الرابضة فوق تلّة مشرفة على معظم بلدات ومناطق القطاعين الغربي والأوسط، وجزء من الأراضي والمواقع الإسرائيليّة. عقب عطلة عيد الفصح، عاد بعض أهلها للسكن فيها لا سيّما الذين نزحوا نحو جارتهم رميش، إلّا أن الغارة الإسرائيلية التي استهدفت أحد منازلها في 27 من نيسان الفائت، في الحارة القديمة أو ما يعرف بالـ»زقاق» حيث تنتشر البيوت العتيقة، قضى على ما تبقّى من آمال البقاء. فيقول مختار القوزح قيصر أبو رزق إن العائلات أو الأفراد الذين قرّروا البقاء، عادوا أدراجهم. بعضهم رجع إلى رميش والبعض الآخر إلى دبل. إنها المرة الأولى التي تُستهدف فيها وحدات سكنية. وأضاف أن الغارة الحربية لا تقتصر أضرارها على المكان المستهدف، بل تطال البيوت المجاورة وهذا ما أدّى إلى تضرّر بعض المنازل لا سيما القديمة.
عند أطراف رامية والقوزح، رميش ودبل، تقع عيتا الشعب، البلدة الحدودية الأشهر في الحربين، إذ نالت حصّة الأسد في تمّوز 2006 وحرب الإسناد في 8 تشرين الأوّل. تنتشر البلدة فوق أكثر من تلّة، تقابلها ثلاثة مواقع إسرائيلية هي: الراهب، الذي يوازيها ارتفاعاً، شتولا وبرانيت. وتتميّز حدودها لا سيّما مع إسرائيل بأحراج غنية وكثيفة من السنديان والملّول ما يُعيق الرؤية عند الإسرائيليين. لذلك، تتعرّض منذ بداية الإشتباكات لقصفٍ متواصل ما أدى إلى حرائق كبيرة. إذ لم يمرّ يوم واحد من دون تسجيل غارات حربية وقذائف مدفعية وقنابل فوسفورية، حصدت معها الأخضر واليابس.
أما عن الدمار في عيتا الشعب، فلا نتحدّث عن وحدات سكنية بل عن أحياء بكاملها، لدرجة لا يمكن إحصاؤها إلا بعد ان تضع الحرب اوزارها وفق رئيس بلديتها محمد سرور. كان في عيتا نحو 3000 منزلٍ، دمّر 70% منها بشكل كامل أو جزئيّ. الصور والفيديوات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام تكشف حجم الدمار والخسائر. فالخطّ الرئيسي للبلدة سوّي بالأرض. سكانها المقيمون الذين يتخطّون الـ10 آلاف نسمة، قد نزحوا جميعهم نحو صور وبيروت.
في السياق، يؤكّد سرور أنّ عيتا فارغة حتى من المقاتلين أو «المقاومين»، وأن «ما يقوم به العدوّ الإسرائيلي من استهدافات مباشرة للمنازل والمنشآت ومحطات الوقود وغيرها من بنى تحتية، هدفه إنشاء منطقة حدودية عازلة غير قابلة للحياة والسكن». تشتهر عيتا الشعب بأنها إلى جانب جارتها رميش وعيترون أكثر ثلاث بلدات تزرع التبغ وتصدّره إلى «الريجي»، كما برز اسمها في حرب تموز 2006، عندما أسر «حزب الله» جنديين إسرائيليين في منطقة «خلّة وردة» (بقعة جغرافية حدودية تابعة لعيتا). في هذا الإطار، يلفت سرور إلى أنّ «ما نشهده اليوم، أقسى من صيف 2006 فرغم الدمار الشامل الذي حلّ بنا جرّاء الإجتياح العسكري الاسرائيلي بآلياته وجنوده آنذاك، إلا أن الحرب كانت موقّتة إذ دامت شهراً ويومين، أما في المعركة الراهنة، فهي استنزاف طويل تشبه الموت البطيء، متمنّياً رغم تشديده على أنّ «إسرائيل لا يمكن الوثوق بها مطلقاً»، أن تنتهي سريعاً كي نعود إلى ديارنا وأرزاقنا».
أما دبل، ورغم القصف الذي يطال أطرافها، فيبقى الوضع داخلها شبه طبيعيّ، مع أخذ الحيطة والحذر، وتجنّب الخروج من البلدة أو التوجّه نحو الأراضي الزراعية الواقعة عند أطرافها. واللافت أن قسماً من سكّانها الذين نزحوا مع بداية الأزمة، عادوا إليها، لا سيّما مع عيد الفصح، ويسكنها اليوم حوالى 300 عائلة. كما فتحت مدرستها الرسمية أبوابها أمام طلابها (يومين في الأسبوع) مع متابعة الدروس عن بُعد (أونلاين). في رميش، صحيحٌ أن المعارك أصابت بعض منازلها الواقعة عند أطرافها وتعرّضت أراضيها وحدودها ومزروعاتها لقصف متواصل، إلّا أنها تشهد حضوراً سكانيّاً لافتاً، إذ تُعدّ من أكبر التجمّعات الأهلية في قضاء بنت جبيل. وأيضاً، عين إبل، البلدة المجاورة لمدينة بنت جبيل، فقد كان نصيبها من القصف أقلّ من غيرها، رغم سقوط بعض «الصواريخ الطائشة» التي انطلقت من بلدة الطيري في جنوب لبنان، واعترضتها القبة الحديدية الإسرائيلية في منتصف تشرين الثاني من العام الفائت.