كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
إثنتا عشرة ساعة، أكثر قليلاً، على خطى البطريرك (الطوباوي قريباً) الجبار إسطفانوس الدويهي. هي خطى مشيناها بسعادة، بتأمل، بتمنٍّ أن نتنفس معه، في أرضه، في إهدن الجميلة، سراً آخر يعيد تجذيرنا في لبناننا، في لبنانه، في وطنٍ يعيش الويلات ويأبى أن يموت. هنا أهدن. هنا ولد البطريرك الذي يُطوّب في الثاني من آب. هنا تقترب السماء من الأرض وتلفح الزائر نسمات القداسة. هنا خبرٌ جديد، سعيد هذه المرّة: قديسٌ آخر ولد في لبنان. هللويا.
فلنفرح. هذا حقٌ لنا. فلنُهلل ونرنّم ونتلو الأبانا والسلام ولنهتف مع روزيت الدويهي التي تمّ توثيق شفائها على يديّ البطريرك الطوباوي: إيماننا وحده من يُخلصنا. نحو خمسين إعلامية وإعلامياً إلتقوا مع طالب الدعوى الأب بولس القزي ليمشوا سويّاً على خطى البطريرك الدويهي. فرحُ الأب قزي كبير. هو فرحٌ معدٍ. عينا الأب القزي تشعان فرحاً. هو كما الاب الحنون الذي يتابع أدق التفاصيل ولا يتعب من تلاوة الصلوات والأخبار عن طوباوي جديد. ساعتان، أكثر قليلاً، استغرقتها الرحلة المكثفة على خطى البطريرك.
فما سرّ هذا البطريرك الذي جُعل منه طوباوياً؟ وماذا عن رحلة الألف ميل التي قربته من لحظة التطويب؟
فلنبدأ من الصرح البطريركي في بكركي. البطريرك بشارة الراعي انتهى للتوّ من قداسه الصباحي. الأب القزي سلّمه الكتاب الآخر من ملف التطويب ووقّع البطريرك الراعي على الصورة الرسمية التي ستعتمد لتطويب المكرم الدويهي. صفّق المشاركون لهذا الحدث. وانطلق الجميع الى إهدن الجميلة. المطران جوزف نفاع هنا. والخورأسقف أسطفان الدويهي هنا. الكلّ في فرحٍ. وكم يحتاج اللبناني اليوم الى فرح. هناك نتأكد من جديد أن أوّل شروط السعادة هو عندما يتوافق الفكر والقول والفعل. هنا امتزجت ثلاثتها على خطى البطريرك الطوباوي.
عمل علمي
رفات البطريرك هنا. عالمة الآثار والأنتروبولوجيا الدكتورة ندى الياس وعالم الأحياء البروفسور بيار زلوعة مشيا رحلة التكريم. هي قالت: «في ربيع العام 2018 أطلقنا عملية البحث عن رفات البطريرك في مدفن القديسة مارينا فوجدنا كومة عظام من دون أي ترابط مفصلي. نقلناها الى الكرسي البطريركي في الديمان ومن هناك الى مختبر خاص أنشئ لهذه الغاية. جمعنا الجثامين عبر فحص الحمض النووي فتأكدنا أنها تعود الى 44 شخصاً واستطعنا ، من خلال الرفات،الوصول الى تحديد هوية 38 شخصاً بشكل كامل من بينهم البطريرك الدويهي».
لكن، هل يمكن ان يصبح جثمان المطوب رفاتاً؟ يجيب القزي: «ليس ضرورياً ان يبقى الجثمان بشكله ليستحقّ المرء أن يسير على درب القداسة». البروفسور زلوعة عبّر عن إيمان كبير رافق سير الأعمال منذ البداية: «وصلنا الى الرفات منطلقين من إشارات. أول إشارة إكتشاف رفات بطاركة أشقاء. رفعنا الجماجم وأخذنا منها عينات وأدركنا أننا على الطريق الصحيح، بدليل أن كل الدراسات كانت تتحدث عن وجود بطاركة أشقاء. ووجدنا رفات البطريرك الدويهي وطابقنا العينات، والجميل أن البطريرك من أب وأم من آل الدويهي، وهذا ما سهّل الأمر. عمل جبار قمنا به. العظام كانت تتكوّم وحين تكون فوق بعضها تأخذ من بعضها وهذا يُصعّب العمل. لذلك إعتمدنا على العظمة التي تقع مباشرة خلف الأذن التي لا تتفتت بسهولة. وعلى هذا الأساس تأكدنا من نسبة 98 في المئة من الرفات. والأعمال مستمرة».
العمل التقني مستمرّ. والأعاجيب مستمرة. قصص كثيرة يرويها الأهالي عن أعاجيب تمّت على أيدي البطريرك الطوباوي. روزيت الدويهي، التي كانت مصابة بداءٍ منعها من الحراك، حاضرة طوال الوقت للقول: شفيت بشفاعتك يا قديس. الأهالي يتحدثون عن البطريرك بدون «رسميات». يحكون معه بصوتٍ عالٍ. يطلبون شفاعته. ويتنشقون تراباً من أماكن تمّت فيه أعاجيبه. تتحدث روزيت من قلب القلب. تتنهد. تذرف دموع الفرح. تشبك أصابعها بالتراب فيهتف كل من هم حولها: إيمانك خلصك.
إبرة في كومة قش
البطاركة عاشوا في زمن الطوباوي في الاضطهاد ولم يجدوا، في الآخر، حتى مدفناً يحتضنهم فكُومت عظامهم كلها فوق بعضها البعض في مغارة في كنيسة القديسة مارينا. كان البحث عن الرفات شاقاً وهناك من سأل: هل ستستطيعون تحديد الرفات؟ الجواب كان: أهل إهدن قدها وقدود. كثيرون قالوا: انكم تبحثون عن ابرة في كومة قش. والجواب اتى دائما: حين يضع اللبنانيون يدهم بيد بعضهم ويصلّبون على وجههم حتى الإبرة في كومة قش تصبح واضحة.
إهدن ضجّت بفرح القداسة. صور البطريرك الدويهي في كل مكان. شجر الشربين والغار في كل مكان. ورائحة الورد تفوح عطرة. الأب بولس القزي حاضر بديناميته في كلِ الأرجاء. نمشي. نرتل. ونتلو من جديد الأبانا والسلام. هنا كنيسة مار شربل الجديدة. وهناك كنائس شهدت محطة من محطات الطوباوي الجديد: مارماما ومرت مورا ودير ماريعقوب الأحباش ودير مارسركيس وباخوس وسيدة الحصن… في كل محطة أريج قداسة ، وسط طبيعة استثنائية. في هذا الجرن عُمّد البطريرك. وهنا سيم كاهناً في 25 آذار من العام 1656. وهنا طلب القربان الأخير. وهنالك يبس السوسن وذبلت الوردة يوم انتقل من هذا العالم في الثالث من ايار عام 1704… نكاد نستشعر التاريخ واللحظات في تلك الجغرافيا الآسرة. فما سرّ هذا البطريرك الذي يسير على طريق القداسة؟
بطريرك الفقراء
نصغي الى الأب القزي وهو يتحدث عن خصال البطريرك: كان من أنشط الرعاة الذين يسهرون على خير أبنائهم. ومنذ استلم زمام البطريركية سعى لإيفاء الديون التي كانت على الكرسي بسبب الجوع وظلم الحكام وتقلبات الزمان. وكانت له غيرة عظيمة على كل ما يخص الكهنة ويفرح بالنشطين منهم ويؤدب المتوانين. إهتم ببناء الأديار وترميمها وساعد على جمع شمل الرهبان الذين كانوا يعيشون، في تلك الأيام، متفرقين. كان عادلاً، كالراعي الصالح لرعيته، يعين المحتاجين ويهدي الضالين ويدافع عن المظلومين ولم يكن يستخف بأحد. هو رعى بكل أمانة ومحبة الخراف. دافع عن حقوق أمته لا عن الحقوق الزمنية بل عن الروحية والطائفية أيضاً ضدّ الذين طعنوا الطائفة في صحة إيمانها…». هو بطريرك الحب والتضحية في ذاك الزمان.
ممسكاً بعصا وكتاب
نراه في صور ومجسمات يحمل عصا بيد وتحته كدسة كتب. هو لم يترك موضوعاً يفيد الطائفة إلا وكتب فيه. وكان ينقطع عن الناس منصرفاً الى الكتابة في المغاور والأودية. وقيل عنه: الدويهي أعظم ماروني علماً وعملاً… هو تحمّل كثيراً كثيراً من الصلبان في حياته بشجاعة وقوة وصبر وكم اختبأ في المغاور والكهوف.
هو حمل صليبه كل يوم ومشى بصبر ووداعة وقناعة وفقر وطاعة وتواضع ومحبة ورجاء. هو بطريرك الفقراء المتقشف الذي أرغم على ترك مقره البطريركي تسع مرات متنقلاً بين كسروان والشوف. هو جال الغرب والشرق متأبطاً إنجيلاً وكتاباً وعصا وحبّاً كبيراً كبيراً لفقراء ومعوزين وضالين. هو أحد تلامذة يسوع لكن من زمن آخر.
نتابع سيرنا في الأرجاء. إهدن ما زالت في ربيعها هادئة. ومن يزورها عليه أن يتناول الكبة بالشحم والهريسة ويتحلّى بالسحلب. ثمة هدوء يجعل المار يسمع صوت أدنى حفيف لنسمات الهواء. على خطاه تابعنا. رئيس مؤسسة البطريرك الدويهي النقيب ( نقيب الطباعة السابق) جوزيف رعيدي فتح قلبه للطوباوي من زمان وزمان والبارحة، وفي خلال جولتنا وسيرنا على خطى الطوباوي الجديد، قصدناه في دارته فتأكدنا منه ومعه أن من يثبت على الإيمان يحقق المستحيل. فما عمل له رعيدي والقزي والبطريركية المارونية والمطارنة سيلمع تحت شمس آب، عند الثامنة والنصف ليلاً، في الصرح البطريركي في بكركي: البطريرك الجبار أسطفان الدويهي طوباوياً.
روزيت الدويهي إيمانها خلّصها
هللويا أيها المؤمنون. مار مارون أسس على الإيمان وماريوحنا مارون جمع الشتات والدويهي الذاكرة أعلى البنيان صلاتهم تحمينا مدى الأزمان. صلوا لهم. صلوا من قلب القلب لقديس عنايا شربل ورفقا والحرديني. صلوا ولا تملوا. نحن مشينا – في الجغرافيا – على خطى الطوباوي الجديد ولنعش، أقله هذا الصيف، بفرح تفاصيل اللحظة المقبلة. هي لحظة تثبت من جديد أن لبنان الرسالة لن يموت ما دام منبت القديسين.