كتب خالد حمادة في “اللواء”:
أضحت أزمة اللاجئين السوريين في لبنان، بعد ثلاثة عشر عاماً من الحوكمة الرديئة، مسألة وجودية تثير قلق اللبنانيين وتستدعي هواجس كيانية لا زالت راقدة في لاوعيهم السياسي. وقد أضيفت هذه الأزمة إلى أزمات متنوعة حاضرة في البيت السياسي اللبناني المتعفن بأمراضه المذهبية وفساد حكامه وعجز مؤسساته الدستورية والقضائية.
ما يدفع هذه الأزمة إلى الواجهة هو تقاطعها مع ملفات إقليمية ودولية شائكة وفوق لبنانية لا يُسأل ولا يُشرك في مناقشتها الوسط السياسي اللبناني الذي لم يرتقِ الى مستوى الدولة بعد، في حين أن الأزمات الأخرى المترتبة على المحاصصات المحلية سواء على مستوى تشكيل السلطة ومنها رئاسة الجمهورية أو ما يتصل منها باستخدام المال العام فهي لا ترقى الى مستوى القلق، إنها إحدى سمات البداوة السياسية اللبنانية بل أحد ضوابط توازنها السلبي الذي يحول دون إنفجار السلطة نظراً لتقاطع المصالح العميق بين مكوناتها.
لقد دخل لبنان الرسمي والشعبي بما يشبه حالة الإستنفار العارم بعد الإعلان عن هبة المليار يورو من القصر الحكومي خلال محادثات الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فوندرلاين اللذين زارا بيروت أخيراً واجتمعا مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. لم تكن الدفوع الشكلية لرئيس الحكومة في معرض الرد على الشبهات التي أحاطت بالهبة وتسويق القبول بها كافية بالتزامن مع تأكيد الرئيس نبيه بري جهله للموضوع، الأمر الذي استدعى اللجوء الى المجلس النيابي لتبرئة ذمة الحكومة وتحميل المكونات السياسية مسؤولية قبولها.
بدى المشهد التفاعلي الذي أثارته الهبة على المستوى الرسمي وكأن الأزمة قد ولدت مع وصول رئيسة المفوضية الأوروبية والرئيس القبرصي الى بيروت وليست وليدة التعاطي الرديء المتراكم معها منذ انفجرت الحرب الأهلية في سوريا في العام 2011. في حينه إنقسمت الوزارات المعنية حيال مسؤولية ودور كلّ منها، وارتبكت الحكومات في اتّخاذ الموقف المناسب على وقع الإنقسام السياسي حيال النظام السوري وحيال الرهان على قدرته في تجاوز حربه الداخلية. التهرب من تحمل المسؤولية الوطنية في حينه هو ما أسقط الجانب الإنساني للأزمة المتصاعدة، وحال دون مواجهتها وربما الإستفادة منها بما يخدم المصلحة الوطنية، وحوّلها إلى مادة للتجاذب السياسي والتهويل الأمني. لقد أدى كل ذلك إلى مقاربة غير واقعية لفهم ومعالجة الوتيرة المتصاعدة للجريمة وللإرتكابات على أنواعها، وإنعكس ذلك في تطبيق سلسلة من الإجراءات المختلفة وفقاً لمعايير إدارية ومناطقية وسياسية، فيما اقتصر دور الحكومة على تكليف الأجهزة والبلديات القيام بما تمليه مسؤولياتها بالرغم من علمها بمحدودية دور كل منها.
على اللبنانيين أن يعلموا أن دول الإتّحاد الأوروبي ليست في موقع القدرة على إعادة اللاجئين السوريين الى بلادهم، وهي ليست في موقع الإلزام بالدفاع عن المصالح الوطنية اللبنانية بل هي في موقع الدفاع عن مصالحها الوطنية. فدول الإتّحاد لا تستطيع وقف العمل بقانون قيصر ولا فرض تسوية سياسية في سوريا تعيد السوريين الى ديارهم، وقد سبق لجامعة الدول العربية بعد إعادة سوريا الى مجلس الجامعة أن فشلت أيضاً في إعادة اللاجئين السوريين حيث قوبلت مساعيها بالرفض، حين أصرّ النظام على ربط عودة مواطنيه بصفقة مالية سياسية تبدأ بإعمار سوريا ولا تنتهي باستعادة شرعيته.
وعلى اللبنانيين أن يعلموا في الوقت عينه أن كل الإجراءات التي يمكن أن تتخذها هذه الحكومة أو سواها لن تفضي الى التحكم بحركة دخول وخروج السوريين من والى لبنان دون الإمساك بالمعابر الحدودية، وهذا بحدّ ذاته ما لا تجرؤ الحكومة على اتّخاذ القرار بشأنه. كما أن بعض اللبنانيين المطالبين بضبط اللجوء السوري في لبنان ينتمون الى محور الممانعة الذي يمعن في تشريع الحدود أمام الدخول غير الشرعي الى لبنان. وبالتالي فإن كل هذا الضجيج السياسي وهذه النخوة المفتعلة لإنعقاد المجلس النيابي يوم غد ليست سوى زوبعة في فنجان لاستيعاب إستياء اللبنانيين وترتيب المخارج لقبول هبة المليار يورو التي أسالت لعاب الحكام.
ولكن من حق اللبنانيين أن ينتفضوا أمام أي هبة مالية أو أي قرض مالي يُقدم للبنان بعد تجربة مريرة امتدت لسنوات من التسيُّب وهدر المال العام والفساد العارم في كل القطاعات وشل عمل الأجهزة الرقابية، وأدَّت الى أزمة مالية وإقتصادية خانقة لا زال اللبنانيون يرزحون تحت وطأتها، وهي لا زالت مستمرة بالرغم من انكشاف لبنان أمام مؤسسات التصنيف الإئتماني وصندوق النقد الدولي.
ومن حق للبنانيين أن لا يثقوا بقدرة الدولة على صرف الهبة بشفافية وفي المكان الصحيح في الوقت الذي يستشري فيه الفساد والرشوة في المرافق كافة، فهل يقوى على ذلك من لا يستطيع وقف مافيا الطوابع المالية التي تُباع بعشرات أضعاف ثمنها على مرأى وأمام الإدارات الرسمية كافةً؟