Site icon IMLebanon

جرائم الاعتداء الجنسيّ.. المجهول أعلى بكثير!

كتبت بتول يزبك في “المدن”:

ما يدور في الفضاء العام اللّبنانيّ، مقلق جدًا، ولا نقول مقلق لأن هناك عصابةً إجراميّة -عابرة للحدود- وصلت تأثيراتها الرهيبة إلى داخل بيوت اللّبنانيين وطالت أطفالهم، ذلك لأن مثل هذه الأحداث الجنائية واردة الحصول في أي مجتمعٍ كان (إن سلمنا جدلًا أن “الشرّ الراديكاليّ” كامن في الطبيعة البشريّة)، بل هو مقلق، لكون القضاء والأمن والرأي العام اللّبنانيّ، وقف إزاء هذا الحدث الإجرامي الكبير، في حيرةٍ عجائبيّة، وكأن الجرائم الجنسيّة بفظاعاتها جريمة هجينة، فرديّة. مبهوتون تلقفوا الحدث، وكأن ذلك بدا مفاجئًا على رغم تكراره آلاف المرات. وهذا الاستهجان وحده مثار قلق، ومرعب بالتأكيد.

مرعب، لأن هؤلاء أدرجوا أفعال العصابة الإجراميّة في خانة الاستثناء، وحيّدوها عن دائرة العنف الشهيرة نفسها (cycle of violence)، الّتي تحوم في مدارها سلسلة من السّلوكيات العنيفة المرتبطة بالطبيعة نفسها وبالتركيبة السّامة إياها، الّتي جعلت المجتمع اللّبنانيّ نفسه، ومنذ عقود، مجتمعًا موغلاً بالعنف والفظاظة، مجتمعًا غير آمن للنساء والأطفال والأفراد بشكلٍ عام. ونحوا باللائمة على وسائل التواصل الاجتماعيّ (الّتي لها دور بالفعل)، من دون التفكير الجديّ أو التحليل العمليّ والعلميّ لأسباب هذا العنف المتفشي، لاستدراك تبعاته في المرات اللاحقة.

الجرائم الجنسيّة في لبنان
حتّى لحظة كتابة هذا التقرير، قد يكون عصيًّا الحصول على إحصاءات دقيقة لمعدلات العنف الجنسيّ في لبنان، والّتي تشمل جرائم الاغتصاب (بكافة أشكاله: الزوجيّ غير المُجرَّم قانونًا وغير الزوجيّ)، التحرش الجنسيّ (الجسديّ واللفظيّ)، الاعتداء المدفوع باضطراب البيدوفيليا (كخانة مستقلة عن الجرائم الجنسيّة الممارسة ضدّ النساء)، والابتزاز، بشكلٍ عام، خلال العام الفائت 2023 والنصف الأوّل من العام الحاليّ 2024، من المصادر الرسميّة الموثوقة كالمديريّة العامة للأمن الداخليّ -وهي جهة التبليغ- بغية مقارنة هذه الإحصاءات والخروج بنتيجة، خصوصًا أن معدلات التبليغ المُصرح عنها، متدنيّة جدًا. فقد أعلنت قوى الأمن أن حصيلة حالات العنف الجنسيّ المرتكب ضدّ النساء والفتيات وحسب في لبنان، والمُبلغ عنها، خلال عام 2023، هي 172 أي بمعدل 14 ضحيّة شهريًا. من دون أن يكون هناك إحصاء للنصف الأوّل من العام 2024.

وتقييم هذه المعدلات ووصفها بالمتدنيّة، يُعزى بصورة أساسيّة لكونها فقط المُبلغ عنها، وهي بالعشرات، في بلد مُكتظ سكانيًّا ويُعاني من أزمات بنيويّة، وتتوافر فيه بيئة لحدوث جرائم مماثلة. فبالتالي، من المُرجح أن تُقلّل هذه الإحصاءات من الحجم الحقيقيّ لتفشي هذا العنف، بسبب استمرار إحجام النّسوة وخصوصًا المنتميات لطبقات اجتماعيّة واقتصاديّة هشة ومن اللاجئين والعاملات المهاجرات عن التّبليغ، الناجم عن وصمة العار الاجتماعيّة، والخوف، وعدم كفاية أنظمة الدعم، وأيضًا هشاشة القوانين وضعف الجهات الرادعة، وانتفاء الإيمان بمقدرة هذه الجهات على تأمين العدالة لهؤلاء الضحايا. لكن بالمقابل، فإن وجود إحصاءات ولو متدنيّة يدل على اندفاع الضحايا رغم كل هذه الظروف، إلى التبليغ. هذا الاندفاع المأخوذ بحراك التوعيّة العام الذي تقوده منظمات حقوقيّة ونسويّة، وبدأت ملامحه تتمظهر مع ظهور حركة الصوابيّة أو المداراة السّياسيّة (political correctness) في لبنان، والّتي أسهمت في تصويب المفاهيم وإعادة النظر فيها..(وهذا نقاش طويل).

إذًا، وبالنظر إلى هذه الحقيقة، فإن الجرائم ذات الطبيعة الجنسيّة في لبنان، ليست بالجديدة ولا مقرونة وحسب بـ”وحش” وسائل التواصل الاجتماعيّ أو “السكّان الغرباء” كما يقول البعض. لذلك، عندما يتحدث المسؤولون الرسميون والأمنيون والقضاة وحتّى بعض وسائل الإعلام، ويدعون أنها بالجديدة، فإن في الأمر مواربة ونفاق. وهذا ما يدفعنا للتساؤل، كيف تعاطت السّلطات الأمنيّة والقضائيّة مع هذه الجرائم حتّى اللحظة، وخصوصًا بما يرتبط بسياق الحدث الإجرامي الحاليّ، عصابة اغتصاب الأطفال وتصويرهم، وما موقف الرأي العام في لبنان منها؟

الجرائم الجنسيّة: العصابة الإجراميّة كمثال
لا تزال ملابسات جرائم الاعتداء والإبتزاز الجنسيّ والإجبار على تعاطي المواد المُخدرة الّتي طالت عددًا من القاصرين من قبل أفراد عصابة منظّمة، تتكشّف تباعًا. وهذه القضية شغلت الرأي العام اللّبنانيّ. فمن جهة، انشغلت وسائل التواصل الاجتماعيّ ووسائل الإعلام في مناقشة الأخبار والمعطيات الأوليّة المُسربة من التحقيقات الأمنيّة والتوجهات القضائيّة والاشتباكات بين المحامين وهذه الجهات، وتهافت النشطاء على نشر أسماء المشتبه بهم (وأحيانًا الضحايا)، من القاصرين وغير القاصرين وصورهم، وتوالت المطالبات بـ”تعديل” القوانين، واستعجل البعض لرفع طلب فرض عقوبات سريعة وجذريّة كالإعدام أو الإخصاء الكيميائيّ، كخطوة رادعة بالمطلق، كل ذلك قبل انتهاء التحقيقات. وبينما قد يُبرّر هذا الحراك الذي قاده الرأي العام اللّبنانيّ، بنمطٍ من الناشطيّة الحقوقيّة والأخلاقيّة المُفرطة، إزاء العجز عن تعويض القاصرين عن هذه الفظاعات المُرتكبة بحقّهم، وغياب الأمن الاحترازيّ لحمايتهم، فإن هذا الحراك قد كشف أنماطاً أخرى، تتعدى التأثر والعاطفيّة الشعبيّة والاجتماعيّة، لتُظهر هشاشة الأجهزة الأمنيّة والجهات القضائيّة أمام الجرائم ذات الطبيعة الجنسيّة، وخصوصًا بتسريب التحقيقات المُضرّة بالضحايا، والّتي حققت كل مخاوف ضحايا الاعتداءات الجنسيّة في لبنان، من التبليغ.

وفي هذا السّياق، تُشير الخبيرة الدوليّة في حماية الطفل، زينة علوش، في حديثها إلى “المدن” إلى هذه الشوائب، قائلةً: “في البداية يجب التأكيد على أن الطريقة الّتي تعاطى فيها القضاء والأمن ووسائل الإعلام والمجتمع، وما يُسمى مختصيّ حماية، في هذا الملف، ينمّ على تخبطٍ واضح في فهم وتقييم خطورة هذا الملف، وهو مفتوح على أفق ظلاميّ، بتجاهل هؤلاء لخطورة اصطياد المعلومات وتحقير الأطفال وتعريضهم لمخاطر. فعلى المستوى القضائيّ، أي موضوع يمسّ الأطفال، يجب أن يكون ضمن اختصاص قضاء الأحداث، ويجب أن يكون هناك قضاء مختص له خبرة في التعاطي مع القاصرين، أكانوا ضحايا، أم في هذه الحالة ضحايا ومن ثمّ متورطين (وهم في كل الأحوال ضحايا)، وهذا هو المطلوب عند توافر حالة لطفل في نزاع مع القانون، فلا يُمكن بالتالي عرضه على عددٍ من الأجهزة، بل يجب أن يكون هناك جهة واحدة”.

تُضيف علوش: “وهذا السّلوك الأمنيّ والقضائيّ والإعلاميّ، يدفعنا للتساؤل، أين ذهبت جهود منظمات الأمم المتحدة والجمعيات الّتي عملت لسنوات طويلة، لتعديل القوانين الحماية؟ أين هذه الأموال الّتي كان استثمارها لهذه الغاية ولتأسيس برامج حماية للأطفال على هذا المستوى، تحديدًا؟”. ولفتت علوش لكون بعض وسائل الإعلام كان لها دور سلبيّ ومسيء جدًا لمهنيّة الصحافي والإعلامي، مستطردةً: “فحتى الصحافيّ الاستقصائيّ، ليس له دور في أن يكون قاضيًّا، وهنا لست أوجه أصابع الاتهام إزاء أي شخص، بل أرى أن الجميع يحاول تسريب الأخبار ونشر أسماء (متورطين وغير المتورطين)، حيث صار التحقيق علانيّاً. وهذه السّلوكيات، كلّها تنضويّ على مخالفات للقوانين والحقوق البديهيّة للأطفال، وتستدعي سوق كل المتورطين إلى العدالة، والأصحّ، أنه لو كان القانون فعليًّا يردع، لكان منع التسريب بالمرتبة الأولى الذي يتسبب بضررٍ مباشر لضحايا الاعتداء الجنسيّ”.

الجرائم الجنسيّة: إشكاليات القانون كعنصرٍ رادع
وما استحضار هذا النمط الذي اعتمدته السّلطات الأمنيّة والقضائيّة في سياق الحدث الحاليّ -الجرائم الجنسيّة المنظمة- والحوادث المشابهة الّتي سبقته، وكذلك موقف الرأي العام في لبنان، سوى محاولة للوصول إلى خلاصة، مفادها أن العطب ليس فقط عند الأجهزة والإعلام والرأي العام والمجتمع المبهوت أمام وطأة الجريمة المنظمة هذه، بل هو في صلب القانون نفسه، الذي يدعي لبنان تقدميته فيه، رغم أنّه بات في حاجةٍ ماسة للتطوير والتحديث والتنقيح..

فمثلًا لا تزال عقوبة الاغتصاب غير الزوجيّ، في المادتيين 503 (503 مُكرّر) و504 المعدلة، فضفاضة، كما هي في حالة التحرش الجنسيّ، الذي يُعرفه القانون بالفعل المُكرّر، ولا يضع معيارًا واضحًا عن عدم الرغبة من قبل الضحيّة، وصولًا لصعوبة إثبات الجريمة، كما هو زواج القاصرين والقاصرات (الذي يُعد في الشُرع الحقوقيّة اغتصابًا) المحكوم بقوانين الأحوال الشخصيّة (راجع “المدن”). والعموميّة والتخبط الذي نشهده في هذه السّياقات، يستفحل أكثر عندما تصير الجنسانيّة دافعًا للقتل، مثل جرائم “الشرف” الّتي كان القانون يتساهل معها لحين تعديله.. وبالرغم من التعديل بقيت هذه الجرائم منتشرة ومتغاضى عنها في غالبية الحالات، بحكم الفوضى والتسيب الأمنيّ الحاليّ.

وهنا يُمكن استنتاج أن القانون اللّبنانيّ وضمنًا المشرع، لا يزال ينظر إلى الجرائم ذات الطابع الجنسيّ، بعيونٍ مُحايدة، وكأنها خارجة عن سياق الجرائم الأخرى (هذا من دون التطرق لمعضلة التمييز بين الجنسين، أو عدم مراعاته للنظرة الجندريّة في وضعه)، ناظرًا إلى هذا العنف بوصفه من الجرائم التّي تندرج تحت مُسمى “الأعمال المنافيّة للحشمة” والتّي يسهل تفلتها من العقاب. ثم لا يُمكن تناسي أن هذا النوع من العنف مُرتبط بواقع اجتماعي يبرّره، وبواقع قضائيّ محكوم بتشريع مُنطلق من أعراف وفلسفات مهيمنة، فيصير العنف الجنسيّ إثمًا ولا يُعدّ جريمة في دولة اللاقانون.