كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
في 12 أيار 2019 استسلم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لمشيئة الله وانتقل إلى أحضان أبيه السماوي قبل عام واحد من بلوغه المئة. في 7 أيار 1950 سيم كاهناً وبعد ستة أعوام استدعاه البطريرك مار بطرس بولس المعوشي ليكون أمين سرّه، ومنذ ذلك التاريخ لم يغادر بكركي. حتى بعد وفاته رقد في مدفن البطاركة في الصرح. في 16 تموز 1961 رُقِّي إلى درجة الأسقفية، وفي 19 نيسان 1986 صار بطريركاً. لم تكن سدّة البطريركية مكتوبة له ولكنّه كان كأنّه منذور لتولّي هذه المسؤولية التي أُلقيَت على كتفيه. خلال 25 عاماً أمضاها بطريركاً، سجّل اسمه في سجلّ البطاركة الخالدين. قد تكون قصص هذه الأعوام معروفة، ولكن قصة وصوله إلى هذا الموقع الديني الماروني الأول لها رواية لم يتوانَ عن روايتها في يومياته، وهي تحكي كيف صار المطران نصرالله صفير بطريركاً.
ماذا حصل في بكركي والفاتيكان بين حدث «استقالة» البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش وتعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً رسولياً، وبين حدث انتخاب المطران نصرالله صفير بطريركاً؟ ما هو الدور الذي لعبه صفير في هذه المرحلة، ولماذا اعترض المطارنة الموارنة على قرار الفاتيكان؟ وما هي المهمة التي قام بها صفير في هذا المجال؟
يروي البطريرك صفير: يوم الخميس 14 تشرين الثاني 1985 سافر غبطة البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش إلى روما للمشاركة في احتفال إعلان الأخت رفقا الريِّس طوباوية الذي سيترأسه البابا يوحنا بولس الثاني. عند الساعة الواحدة والنصف غادر غبطته الصرح البطريركي في بكركي على متن طوافة يرافقه المطران ابراهيم الحلو راعي أبرشية صيدا والمونسنيور ألبير خريش والأباتي بولس نعمان والأب يوسف محفوظ، وقد أعلن البطريرك خريش قبيل سفره أنه سيشارك أيضاً في اجتماع مع الكرادلة للنظر في تنظيم الكوريا الروحانية، وفي مجمع الأساقفة الذي سينعقد بين 24 تشرين الثاني و8 كانون الأول. وقد أبدى أسفه لمحاولة اغتيال أركان «الجبهة اللبنانية» في دير عوكر التي حصلت في 12 تشرين الثاني. جرت المحاولة في المرحلة التي كان يتم فيها وضع الصيغة النهائية للاتفاق الثلاثي مع التحضير لتوقيعه في دمشق، وكان رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» إيلي حبيقة يسعى إلى إسكات الأصوات المعارضة له في هذا الخيار الذي اعتمده.
استقال خريش أم أُقيل؟
لم يكن البطريرك خريش نفسه، أو أحد غيره، يتوقّع أن تكون هذه الزيارة إلى الكرسي الرسولي محطة مفصلية في تاريخ البطريركية المارونية. فقد ذهب بطريركاً وعاد بطريركاً مستقيلاً مع قرار صادر عن قداسة البابا في 27 تشرين الثاني بتعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً رسولياً للكنيسة المارونية يحلّ محلّ البطريرك.
لم يُعرف في ذلك الوقت ما إذا كان خريش قدّم استقالته طوعاً أو أن الفاتيكان طلب منه ذلك، ولا ما إذا كان قبِل هذا الطلب أو أذعن له. ولم يُعرف أيضاً أي ردود فعل سيتركه هذا القرار داخل الكنيسة المارونية وبين المطارنة الذين لم تتمّ استشارتهم فيه. وفي الوقت نفسه لم يُعرف أيضاً ما إذا كان المطران الحلو عالماً مسبقاً بما سيحصل، وما إذا كانت مرافقته للبطريرك بناءً على طلب الأخير أم بناءً على طلب من الفاتيكان.
وبالتالي، هل كانت هناك مراسلات بين الحلو والكرسي الرسولي لإحداث التغيير «المطلوب» في بكركي بعد الانتقادات الكثيرة التي كانت تُوجّه للبطريرك وتعتبره عاجزاً أو غير قادر على اتخاذ القرارات المناسبة؟ وذلك تماشياً مع الأحداث الخطيرة التي عاشها لبنان وهدّدت الوجود المسيحي فيه منذ بداية الحرب في العام 1975 الذي تولى فيه خريش سدّة البطريركية بعد انتخابه بطريركاً خلفاً للبطريرك مار بولس بطرس المعوشي في 2 شباط من ذلك العام، وقد تمّ تنصيبه في التاسع منه يوم عيد مؤسس الطائفة المارونية القديس مارون.
بطريرك روحي وبطريرك زمني
تفاجأ اللبنانيون بهذا القرار الفاتيكاني، وكانت المفاجأة الأكبر داخل الطائفة المارونية، وخصوصاً داخل بكركي، حيث كان يقيم البطريرك نصرالله صفير بصفته وكيلاً بطريركياً منذ أيام البطريرك المعوشي، واستمرّ مع البطريرك خريش. والسؤال الرئيسي الذي طرحه الأساقفة يتعلّق بما إذا كان هذا القرار مقدمة لانتخاب المدبّر الجديد الحلو بطريركاً أم تكليفاً له للإعداد سريعاً لانتخاب بطريرك جديد، ولم تكن هناك أي معلومات حول المدة. ولذلك كان لا بد من انتظار عودة البطريرك والمدبّر من روما لمعرفة حقيقة ما حصل.
يوم الجمعة 29 تشرين الثاني 1985 عاد المطران ـ المدبّر الحلو إلى لبنان. عند الساعة الخامسة مساء وصل إلى ساحة الصرح البطريركي في بكركي في سيارة رئيس مجلس النواب حسين الحسيني وقد وضعها في تصرفه ونقلته من مطار بيروت بمواكبة قوة من قوى الأمن الداخلي والأمن العام، وبرفقة قائد الدرك العميد أنطوان نصر، وكان في انتظاره عند وصوله الوزير جوزف الهاشم موفداً من رئيس الجمهورية أمين الجميل والمطارنة فرح وخوري وخليفة وأبو جودة، بينما اعتذر كل من المطارنة زيادة وجبير وحرب. وكذلك كان في انتظاره عدد من رجال الدين والرهبان والراهبات والشعب.
عند المدخل الخارجي لبناء الصرح ارتدى سيادته الأثواب الحبرية ثم دخل الكنيسة لتأدية الصلاة وألقى كلمة تحدّث فيها عن تطويب الأخت رفقا، وأعلن أنّه بناء على طلب البطريرك خريش صدرت البراءة البابوية بتعيينه مدبراً رسولياً مع كامل الصلاحيات والحقوق، مضيفاً أنّ البطريرك لا يزال يشغل الكرسي ويحتفظ بما يعود إليه من شؤون روحية. بعد ذلك انتقل إلى الصالون الكبير لتقبّل التهاني التي استمرّت حتى الساعة السادسة والربع. وكان هذا الاستقبال إيذاناً ببدء المدبّر الجديد ممارسة دوره، ولذلك تصرّف على أساس أنّه الرأس المنفذ في أعلى منصب كنسي ماروني، بينما كان البطريرك لا يزال يتابع برنامج زيارته في روما والفاتيكان من دون أن يصدر عنه أي تعليق حول القرار الرسولي، وهذا ما زاد التساؤلات حول حقيقة وخلفيات ما حصل. وقد بدأ الحلو ترجمة مسؤوليته الجديدة أفعالاً وممارسة.
صفير ينتقد الحلو
يوم الخميس في 12 كانون الأول 1985، كما ينقل صفير، زار الحلو يرافقه المونسنيور إميل شاهين الرئيس سليمان فرنجية في زغرتا. كان في انتظاره عند جسر المدفون إبنه روبير وعدد من ممثلي عائلات زغرتا، حيث رحّبوا به وانتقل من سيارته إلى سيارة الرئيس فرنجية ووصل إلى قصره عند الساعة الرابعة بعد الظهر حيث كان فرنجية ينتظره مع جمع غفير، وقد ألقى الحلو كلمة تطرّق فيها إلى موضوع تعيينه مدبّراً وأنه سيكون في خدمة الكنيسة المارونية في هذا الموقع لمدة معينة، وحيّا الرئيس فرنجية الذي ردّ على التحية بالمثل آملاً أن يكون خلاص البلاد على يده». وقد لاحظ المطران نصرالله صفير تعليقاً على هذه الزيارة أنه كان من المنتظر أن يدعو الحلو إلى توحيد صفوف المسيحيين من قصر فرنجية ولكنه لم يفعل.
خريش: لم يفاتحنا أحد
يوم الجمعة 13 كانون الأول 1985، هبطت في مطار بيروت طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط تقل البطريرك خريش بعدما أنهى برنامج زيارته المقرر سابقاً إلى روما. في صالون المطار كان في استقباله المدبّر البطريركي والمطارنة صفير وضومط واسكندر والأباتي مارسيل أبي خليل والمونسنيور ألبير خريش، وهناك أدلى البطريرك بأول تعليق له على القرار الفاتيكاني، حيث قال: «على الناس ألا يُتعِبوا أنفسهم في البحث عن تفسير لتعيين المدبّر الرسولي لأنّ المسألة في منتهى البساطة». وأضاف: «أما نحن في البطريركية فلم يفاتحنا أحد بشيء على الإطلاق مما حدث».
في الطريق من المطار إلى بكركي كان لافتاً أنّ البطريرك خريش استقلّ سيارة الرئيس حسين الحسيني بينما استقلّ المدبّر الحلو سيارة البطريركية وسار الموكب وسط حراسة مشددة. وعند الوصول إلى بكركي، دخل البطريرك إلى الكنيسة لتأدية الصلاة، وألقى كلمة شكر فيها الله على سلامة العودة وقداسة البابا لأنه لم يقبل استقالته من منصبه بل أبقى له الصلاحيات الطقسية وحوّل الصلاحيات الباقية الإدارية وسواها إلى المدبّر الرسولي ابراهيم الحلو.
مدبّر رسولي أم ساعي بريد؟
مساء يوم السبت 14 كانون الأول 1985 كان المطران صفير إلى جانب المدبّر الحلو يتابعان نشرة الأخبار عبر محطة تلفزيون «المؤسسة اللبنانية للإرسال» التابعة لـ»القوات اللبنانية». أخبر الحلو صفير أنّه زار رئيس الجمهورية أمين الجميل الذي حمّله رسالتين إلى كل من الدكتور إيلي كرامه، رئيس حزب الكتائب، وإيلي حبيقة، رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية»، وأنّه سيعمل على مصالحتهما ومصالحة المسيحيين وجميع اللبنانيين. وقد كان يتحدّث بلهجة الواثق المطمئن إلى نجاحه في هذه المهمة، كما يعلّق صفير في تدويناته عن تلك الواقعة.
ولكن تفاجأ صفير والحلو أنّ المذيع أذاع خبر اللقاء بين الجميل والحلو ولكنّه لم يذكر أي شيء عن تصريح الحلو الذي استغرب أمام صفير هذا التجاهل معلّقاً: «يبدو أن «القوات» غير راضية». وطلب الانتقال إلى سماع نشرة أخبار القنال 7 من «تلفزيون لبنان» أيضاً. وقد أوردت التصريح كاملاً ثم ظهر المدبّر الحلو على الشاشة وهو يمهّد لتلاوة الرسالتين بكلمات يدعو فيها إلى الاتفاق. بعد ذلك سأل الحلو صفير رأيه بما قاله، فردّ صفير: «كل مسعى إلى الوفاق مشكور». وتوقّف عن الكلام ليعلّق في تدويناته ما كان يجول في خاطره «ولكن لم أقل له هل أصبح المدبّر ساعي بريد لدى رئيس الجمهورية لينقل عنه رسائل؟».