جاء في “الراي”:
يستحقّ لبنان لقبَ «الوطن الفريد» الذي اكتسب خاصيّةً جديدة واستثنائية تضاف إلى دفترٍ يزدحم بالكلام عن «الخمس دقائق» بين الثلج والبحر، والطبيعة الغنّاء، والنبوغ الفردي، والحداثة التي كانت، والحرية التي صارت تُعانِدُ الظلامية الزاحفة.
والخاصيّةُ التي يختبرها الوطن الصغير منذ أكثر من 7 أشهر هي المساكنة بين النار والماء على سطح واحد، والتعايش بين الحرب وأهوالها وأحزانها وبين الفرح والسهر والسمر في يوميات تضجّ بأخبار عن «وليمةِ النار» في الجنوب والألعاب النارية في غير مكان من لبنان.
وليس غريباً على «بلاد الأرز» هذا التناقض أو «الانفصام»، فقد احترف شعبه الرقص على حافة الهاوية وبات يتقن السيرَ بين النقاط ويقتنص الفرحَ أينما وُجد وكلما لاح منه وميض. وصيف 2024 يبدو متوهجاً بالرغم من كل ما يحوط به من سواد… إعلاناتٌ لحفلات غنائية كبرى في بيروت والمناطق، عودةٌ لمهرجانات احتجبت مع بدء الأزمة المالية، ونشاطات فنية وسياحية ورياضية تنافس أكثر البلدان استقراراً وهدوءاً. فالكل يتحضّر لصيف «ولعان»: على الجبهة التي أطلّ من على تخومها وزير الدفاع الاسرائيلي يواف غالانت متوعّداً بـ«صيف ساخن»، كما على المسارح. فلأيّ منهما ستكون الغلبة وهل يكون هدير السهر أقوى من دويّ الحرب التي تُقرع طبولها بالصوت العالي؟
ولأن خوضَ مغامرة إعدادِ حفلاتٍ ضخمة في خضمّ مناخاتٍ محكومةٍ بالحذر الشديد هو أقرب إلى المجازفة الكبرى، استطلعت «الراي» بعض مَن تجرأوا على المضيّ بـ«صناعة الفرح والأمل» في الزمن المفتوح على شتى الاحتمالات.
«تيكيتينغ بوكس اوفيس» الشركة الرائدة في بيع تذاكر غالبية الحفلات في لبنان تملك خريطةً متكاملة للحفلات الموعودة ومدى الإقبال عليها. ويقول مديرها عبدو الحسيني «إن المنتجين يبدون مطمئنين للوضع وقد جازفوا بإقامة حفلات كبيرة لأبرز الفنانين العرب (بين حزيران وآب المقبلين) ومنهم عمرو دياب، شيرين، تامر حسني، محمد رمضان (في أول حفل له في لبنان)، أصالة (تعود إلى لبنان بعد طول غياب)، رحمة رياض إضافة الى فنانين من الأردن والخليج. كذلك ثمة حضور أجنبي مثل كريس دو بيرغ. ومحلياً تم حتى الآن الإعلان عن حفلتين متتاليتين لوائل كفوري (في الفوروم دو بيروت) وحفل لإليسا ضمن مهرجانات-أعياد بيروت- (تقام عند واجهة بيروت البحرية) التي عادت الى الساحة بعد انقطاع منذ العام 2019».
وإذ لم يُعلن بعد عن كل الحفلات المتوقَّعة للفنانين اللبنانيين، يقول أمين ابي ياغي وهو صاحب شركة «ستار سيستم» المنظّمة لـ «أعياد بيروت» (مع شركتيْ 2U2C و GAT) التي تُفتتح في 18 تموز بحفل إليسا إن الأمور بحاجة لبعض الوقت لتكتمل لكن العمل جار لتحضير المزيد من الحفلات، علماً أن هذه المهرجانات التي تقام هذه السنة تحت عنوان «رجّعنا الاعياد لبيروت» ستشتمل أيضاً حتى الساعة على حفلات لفرقة «بينك مارتيني» ضمن «جولة الذكرى 30» لتأسيسها، والفنان «الشامي» والموسيقي غي مانوكيان.
«لقد تعودنا على الحروب»، يقول الحسيني وعلى إقامة الحفلات في أحلك الأوقات «وحتى لو اضطررنا لإلغاء حفل نعيد جدولته لِما بعد ونستمر ولا نيأس. والغريب في الأمر أن البلد في جهة والحفلات في جهة أخرى، وكأن الأزمات لا تطول هذه الناحية. وكبرى الشركات المنتجة والمنظّمة للحفلات كلها قلبها قوي ولا تخشى المخاطرة. كازينو لبنان على سبيل المثال يشهد جدولاً ممتلئاً بالحفلات في كل صالاته و مطاعمه حتى كانون الاول المقبل. وحتى اليوم الإقبال على الحفلات التي تم الإعلان عنها جيداً جداً فحفل وائل كفوري الذي كان مقرَّراً ليوم واحد تم تجديده بعدما(فوّل) الحفل الأول والثاني يسير على الطريق ذاته. وتَلْقى حفلات الفنانين العرب والفنانين اللبنانيين فئة A إقبالاً شديداً والحجوز كثيرة من داخل لبنان وخارجه حتى ولو بلغت أسعار بعض بطاقاتها 400 أو 500 دولار!».
ولا تقتصر نشاطات هذا الصيف على الحفلات الفنية، وعلى جدولها أيضاً محطة مع كاظم الساهر (تموز)، بل ان النشاطات الرياضية تشهد ازدهاراً لافتاً وسيستضيف لبنان بطولة عالمية في رياضة الـ padel تضم أهم أبطال العالم في اللعبة. وتشهد بطولات كرة السلة المحلية والعربية وحتى الآسيوية حضوراً كثيفاً في الملاعب وتشكل احتفالاً رياضياً يوازي بأهميته الحفلات الفنية. ورغم أسعار بطاقات الدخول فإن الملاعب تبدو دائماً ممتلئة كما يؤكد الحسيني.
وفي حين أعلنت السيدة نورا جنبلاط تجميد أنشطة «مهرجانات بيت الدين الدولية» التي تترأس لجنتها لصيف 2024 بسبب العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان وحرب الإبادة المستمرّة على غزّة، نسأل الحسيني عن سائر المهرجانات التي اعتادت أن تضيء صيف لبنان فهل تم الإعلان عنها أم ثمة تريُّث في ذلك أو ربما غياب؟ فيجيب: «حتى اليوم لم يتم أي إعلان لمهرجانات بعلبك كما كان يحدث في هذا الوقت من السنة ولا شك أن هناك تريثاً خصوصاً في ظل الاعتداءات الإسرائيلية التي تطول المنطقة من وقت الى آخر، وقد أعلنت رئيسة مهرجاناتها السيدة نايلة دو فريج انتظار تطور الوضع الأمني قبل اتخاذ القرار وانه تم إعداد مهرجان مصغّر ورمزي يتناسب مع ما يحصل من أحداث، لكنّ لا قرار نهائياً بعد».
على أن المناطق البعيدة عن أهوال الحرب بدأت تحضّر لمهرجاناتها مثل إهدن وجبيل والبترون وإن لم تعلن عن برامجها بعد.
لكن لبنان الذي كان بحفلاته وفنادقه وأماكنه السياحية قُبلةَ السياح العرب سيفتقدهم هذا الصيف كما الأوروبيين بعد تحذيرات حكوماتهم من السفر إلى لبنان. وإن كان البعض وبينهم فنانون غربيون لن يلتزموا وسيحضرون الى بيروت لإحياء حفلات مثل كريس دو بيرغ العاشق للبنان وغيره من الفنانين الفرنسيين المعروفين. لكن الفئة A من الفنانين العالميين غائبة تماماً عن مهرجانات صيف لبنان وترفض المخاطرة بالمجيء إلى بلدٍ مهتزّ أمنياً وعسكرياً.
وهذا الغياب للسياح رغم فيض الحفلات يبدو جلياً في حجوز الفنادق التي راوحت نسبتها حتى الآن بين 10 الى 15 في المئة ويتوقع ان تصل الى 25 في المئة في الصيف في حين كانت تتعدى في السابق 80 في المئة.
ويقول رئيس اتحاد «النقابات السياحية» ورئيس «المجلس الوطني للسياحة» بيار الأشقر: «نحن في حالة حرب وثمة تهديد إسرائيلي بتوسيع رقعة الحرب واستهدافاتها. واليوم ممنوع على أي أجنبي المجيء الى لبنان وإذا جاء فعلى مسؤوليته الخاصة ولا تكون دولته معنية بترحيله إذا اضطر الأمر. والخليجيون ممتنعون عن القدوم لأسباب سياسية منذ أعوام عدة، أما المغتربون اللبنانيون ولا سيما من دول الانتشار البعيدة مثل استراليا والأميركيتين فخائفون وحذرون وينتظرون تطور الأوضاع. لكن ثمة عاملاً اقتصادياً قد يشكل عائقاً أمام قدومهم حتى ولو هدأت أوضاع الجبهة الجنوبية إذ ان بطاقات السفر الى لبنان يزداد سعرها بين 30 الى 50 في المئة صيفاً فيصبح مجيء العائلات الكبيرة مكلفاً جداً في حين أن حجْز التذاكر في الشتاء أقلّ بكثير».
في كل المناطق والقرى يتم التحضير لنشاطات ومهرجانات وحفلات لجذب المغتربين اللبنانيين وبعض السياح العرب من العراق والأردن ومصر، ولا سيما أن مواقع التواصل الاجتماعي ظهّرت الوجه الجميل للطبيعة اللبنانية وخصوصاً في الأماكن الريفية وسوّقت لسياحةِ من نوع جديد وكشفت عن نوعية حياة في «بلاد الأرز» لا يجدها الزائر في أي مكان آخر سواء على صعيد جمال الطبيعة في أماكنها النائية الساحرة أو على صعيد صخب الحياة الليلة في أماكن السهر والسياحة.
ويقول الأشقر: «بعدما كانت السياحة محصورة في بيروت وجبل لبنان صارت اليوم تمتدّ على مساحة كل البلد، بحيث إن آخر ضيعة في لبنان باتت مقصداً سياحياً بفضل ما يُعرض عنها من صور وفيديوات. وقد ساهم هذا الأمر في تنشيط السياحة والحفلات وحركة المطاعم، لكن وحدها حركة الفنادق تشهد جموداً لأسباب كثيرة».
ويشرح نقيب أصحاب الفنادق واقعها هذا الصيف قائلاً إن المغتربين الذين يقصدون لبنان غالبيتهم يملكون منازل فيه كما ان بيوت Airbnb تنافس الفنادق والشقق المفروشة في الأماكن الصاعدة والريفية. وتوسُّع الخريطة السياحة أدى الى انتشار الزوار في أماكن متعددة بدل تجمعهم في فنادق بيروت وجبل لبنان. بحيث سيكون من الصعب على الفنادق هذا الصيف تعويض الخسائر التي تكبّدتها طوال أشهر الحرب الثمانية الفائتة.
وفي مقارنة بين صيف الحرب الحالي والصيف الهادئ الذي سبقه، أرقامُ بعضها يصبّ لمصلحة موسم 2023 ولا سيما في عدد الذين يُتوقع قدومهم. فالصيف الماضي شهد مجيء نحو 900000 وافد الى لبنان بزيادة نحو 23 في المئة عن موسم 2022. ولكن هذه السنة يصعب توقع استقطاب العدد نفسه بحسب النقيب الأشقر الذي يقول إن غالبية القادمين الى لبنان صيفاً ليسوا من المغتربين الحقيقيين بل من العاملين في دول الخليج الذين يعودون بشكل دوري لرؤية أهلهم وعائلاتهم، معتبراً أن ازدياد عدد القادمين يعود بشكل كبير الى ارتفاع عدد المهاجرين الذين اضطروا لترك وطنهم من أجل العمل، ولا يمكن وضع هؤلاء ضمن خانة المغتربين. و لكن هذا لا يلغي وجود مغتربين مقتدرين يعودون كل صيف ويحرّكون العجلة الاقتصادية اللبنانية وإن كان أكثر من 10000 عائلة بمتوسط أفراد يبلغ أربعة أشخاص يتريثون في العودة هذا الصيف وينتظرون إشارات مشجعة للمجيء.
من جهة أخرى ورغم الحرب فإن عدد المطاعم في لبنان الى ارتفاع ففي البترون وحدها ازداد عددها نحو ستين مطعماً عما كان عليه في 2022 وهذا إن دلّ على شيء فعلى تعلًّق اللبناني بالحياة وازدهار الحركة السياحية وانتشارها في بقاع مختلفة من لبنان… ليبقى وحده الجنوب اللبناني حزيناً غارقاً في السواد والدمار في انتظار حلّ يعيده إليه الحياة.