كتبت زينب حمود في “الاخبار”:
تزايدت وتيرة الولادات في صفوف النازحين السوريين حتى باتت تشكّل نحو 52% من مجمل الولادات على الأراضي اللبنانية، إلا أن الأخطر أن 60% من هذه الولادات لا يجرى تسجيلها، ما ينذر بـ«جيش» من مكتومي القيد ممن وُلدوا في لبنان الذي يمنح القانون فيه حق الجنسية اللبنانية لمن يثبت أنه مجهول الوالدين وولد على الأراضي اللبنانية، وهو ما يمكن إثباته بالقليل من الاحتيال وتواطؤ المخاتير، ويصبح أكثر يُسراً بعد أجيال عندما يصعب تتبّع «سورية» مكتومي القيد.مصادر وزارة الداخلية لا تملك جواباً عن عدد الولادات السورية المسجلة في سجلات الأجانب، وتجدها «غير مجدية لأنّ جميع النساء السوريات تقريباً يلدن من دون إبلاغ الدوائر الرسمية»، فيما أظهر تقرير «تقييم نقاط الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان» VASyR الذي أجرته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالتعاون مع «اليونيسيف» و«برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة»، تحسّناً في معدلات تسجيل الولادات بين النازحين في لبنان من 20% عام 2018 إلى 41% عام 2023. وهو ما تعيده «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» (UNHCR) إلى «تضافر جهودها بالتعاون مع وزارتَي الداخلية والبلديات والشؤون الاجتماعية، من خلال برنامج العمل الوطني الذي يضمن استحصال المواليد الجدد على وثائق رسمية تؤكد نسبهم إلى والديهم، بما في ذلك شهادات الزواج ووثائق الولادة».
رغم ذلك، يبقى نحو 60% من الأطفال السوريين ممن يولدون في لبنان محرومين من حقّهم في الجنسية السورية، و«يواجهون تحدّيات للحصول على الخدمات التعليمية والصحية والعمل الشرعي، في ظلّ الحاجة إلى أوراق ثبوتية للاستفادة من الخدمات والفرص. بالإضافة إلى مواجهة الوالدين مشاكل وعقبات أمام إثبات أنّ الطفل طفلهم عندما يقررون العودة إلى سوريا من دون شهادة ميلاده. وهذه الدورة لن تنتهي، إذ سيتم توارث عدم التسجيل بين الأجيال، فمكتوم القيد سيتزوج وينجب مكتوم قيد آخر، وهكذا دواليك، وصولاً إلى خطر انعدام الجنسية»، بحسب مديرة قسم الإعلام والمناصرة في «المجلس النرويجي للاجئين» منى داود.
وإلى تداعيات عدم التسجيل على صعيد حرمان الفرد من حقوقه وإشكاليات إثبات العلاقة بالعائلة والنسب وما تحملها من خطر فصل العائلات في البلد الأمّ (سوريا)، يواجه البلد المضيف (لبنان) تحديات «جرّاء العدد المهول لمكتومي القيد السوريين الذين ولدوا على أراضيه، وسيوضعون في خانة مجهولي الأهل بعد مرور حوالي أربعة أجيال، وسيستحقون الجنسية اللبنانية»، وفق المحامية نورمن حلاوي، لافتة إلى أنه «داخل سوريا، لا يهمل المواطن السوري قيده نظراً إلى العقوبة الموجعة التي يلقاها، خلافاً لما يفعل في لبنان من اتّكال على الجمعيات لتسجيل قيده».
وكانت اتفاقية عام 1954 المتعلقة بوضع الأشخاص العديمي الجنسية واضحة في تعريف عديم الجنسية بأنه «الشخص الذي لا تعتبره أيّة دولة مواطناً فيها بمقتضى تشريعها»، وهو ما لا ينطبق على اللاجئ السوري عموماً. ورغم التطمينات بأن «بطاقة التعريف من المختار والتي تفيد بأنّ النازح السوري مكتوم قيد وادعاء مجهولية الأهل أو انقطاع العلاقة بأيّ بلد، غير كافية للحصول على الجنسية اللبنانية، بل يجب انقطاع العلاقة ببلد الأهل، وهناك تحقيقات طويلة تجرى حول تاريخ الولادة ومكانها والفترة التي قضاها مقدّم الطلب»، كما تقول مسؤولة المناصرة في جمعية «روّاد الحقوق» برنا حبيب، إلا أنها تشدّد في الوقت نفسه على «ضرورة تفادي هذا الخطر وإن كان لن يحصل غداً، قبل أن تتعقّد الأمور، وخصوصاً أنه في حال استحالة إثبات الحق في الجنسية السورية يمكن أن يطالب النازح بالجنسية اللبنانية».
وفيما تنبّه المشرّع اللبناني إلى هذا «الخطر الداهم»، إلا أنه «بدلاً من أن يكحّلها عماها»، من خلال اقتراح قانون قدمه النائب جورج عطا الله يمنع إعطاء مكتومي القيد من مواليد عام 2011 وما بعده الجنسية أو الإقامة اللبنانية تحت أيّ عذر أو بسبب أيّ ظرف آخر لا قضائي ولا إداري ولا بموجب أيّ مرسوم جمهوري. بمعنى آخر، بدلاً من تنظيم تسجيل الولادات بين النازحين السوريين، اقترح المشرّع حرمان كل مكتومي القيد السوريين وغير السوريين الذين ولدوا في فترة النزوح من الجنسية، ضارباً عرض الحائط بقوانين نافذة، ولا سيّما قانون الجنسية اللبنانية الذي يعطي الحق بالجنسية لمكتومي القيد وفق حالات معينة، أبرزها من وُلدوا من أب لبناني، ومجهولو الوالدين الذين ولدوا على الأراضي اللبنانية.
التدقيق في الأسباب المؤدية إلى انفلاش ظاهرة مكتومي القيد بين النازحين السوريين يشير إلى عراقيل يمكن تذليلها. فالعائق الرئيسي، وفقًا لـ VASyR، هو ارتفاع تكاليف التسجيل ونقل الأسر إلى المراكز العامة مثل النفوس، التسجيل الأجنبي، وغيرها بنسبة 44%)، تليه قلة الوعي حول إجراءات التسجيل لدى السلطات اللبنانية (31%)، والتي تختلف بين البلد الأمّ وبلد اللجوء ما يستدعي توعية بالإجراءات المطلوبة، ويصفها «المجلس النرويجي للاجئين» بـ «المعقّدة للغاية في لبنان، مثل تسجيل الزواج في سوريا الذي يعدّ أسهل بكثير، ويشكل شرطاً لتسجيل الولادات، فيما لا يدرك المواطنون السوريون أن العملية مختلفة تماماً في لبنان».
تبدأ إجراءات تسجيل ولادة طفل سوري في لبنان بالحصول على إشعار الولادة اللبنانية من طبيب أو قابلة قانونية، ثم الحصول على وثيقة الولادة مصدّق عليها من قبل المختار الموجود في المنطقة التي جرت فيها الولادة، وتسجيلها في سجلّ النفوس في القضاء مكان الولادة، ثم في السجل الأجنبي لإدارة الأحوال الشخصية (على مستوى المحافظة)، وأخيراً ختم وثيقة الولادة في وزارة الخارجية اللبنانية وفي السفارة السورية في لبنان. وإلى ما سبق يعدّ عدم توفر الوثائق المطلوبة مثل إخراج قيد عائلي، ومستندات موقّعة من السفارة السورية، وملفات تعريف، عائقاً للتسجيل أمام 6%، ومحدودية حرية الحركة بسبب عدم وجود إقامة قانونية بنسبة 9%.
وهناك عوائق إدارية أفرزتها الأزمة الاقتصادية في لبنان تتعلق بالنقص في الموارد البشرية واللوجستية، وإضرابات الموظفين في القطاع العام، وأزمة فقدان الطوابع… وتشير المصادر إلى «تعمّد بعض الأقلام ولا سيما في الشمال والبقاع تعليق معاملات التسجيل، ففي الشمال مثلاً يمرر القلم 10 وثائق ولادة في الأسبوع للنازحين السوريين (أي بمقدار 1% من الولادات الفعلية)»، ويعزو المصدر نفسه إقفال المزراب إلى «تقاضي رشى عن تخليص المعاملات».
صحيح أن الدولة اللبنانية قدّمت تسهيلات، فأصدرت تعميماً عام 2011 يعفي النازحين السوريين من نظام المهل حتى 2019 ثم مدّدته إلى عام 2022، قبل أن يتوجّب أخيراً الاستحصال على حكم قضائي من قاضي منفرد مدني ناظر في قضايا الأحوال الشخصية بعد مرور سنة على الولادة، واستثنت السلطات الرسمية النازحين السوريين من بعض الأوراق المطلوبة للتسجيل، ولا سيما شهادة إقامة شرعية للأهل، إلا أنه تبقى هناك إشكاليات لأن «المطلوب ليس قراراً من هنا ومبادرة من هناك، وإنما نظام وسياسة شاملة استثنائيان لتسجيل الولادات بعيداً عن التعقيد في المستندات المطلوبة والإجراءات المتّبعة.