كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
بين التحدّي والتحبّب، وبين الأوادم والأشرار، وبين العدل والظلم، وبين القاتل والبريء، وبين الشرعي واللاشرعي، وبين الفوضى والأمان، وبين الترحال والإستقرار وبين القلق والطمأنينة… سوريون ولبنانيون وبشر من كل الملل يتأرجحون. لكن، كما تعلمون، لبنان يعاني واقتصاده منهار والبطالة على أشدها والجرائم تتوالى وفلذات الوطن تهاجر… لهذا كله تحركت القوى الأمنية. هي تأخرت لكنها عادت وتحركت. فماذا عن ردات فعل النازحين السوريين؟ تابعناهم. إستمعنا إلى أسئلتهم. واستمعنا إلى أجوبة بعض السوريين على أسئلة بعض النازحين السوريين. فماذا في التفاصيل؟
عدد الولادات اللبنانية يتضاءل. والسوريون النازحون يفرطون في الولادات والأعداد تُحلّق. هذا حقهم. ما لنا ولهم لكن، في بلادهم. هنا، في لبنان، في رعية مار أسطفان المارونية في البترون- على سبيل المثال لا الحصر- رسالة الأحد، كل أحد، فيها زاوية مخصصة لذكر الولادات والعمادات والوفيات والزيجات التي حصلت عليها الرعية. المفاجأة كانت أنه خلال خمسة أسابيع متتالية لم تُسجل في مدينة البترون ولادة واحدة. ومدينة البترون لمن لا يعرف هي أكبر قلم إقتراعي في بلاد البترون، يقيم فيها نحو خمسة عشر ألف مواطن لبناني من أبنائها ومن سكان قيودهم خارجها. ويقيم نحو 1500 بتروني خارجها، وهناك حوالى 2000 بتروني مسافرون وعلى تواصل دائم مع أهلهم في البترون. هؤلاء لم ينجبوا في خمسة أسابيع مولوداً واحداً. صفر ولادات في 35 يوماً بحسب أرقام الباحث غابي مارون. أرقام حقاً مقلقة. لبنان على شفير هاوية الإستمرار بلبنانييه ولبنانياته. فهل علينا أن نغض الطرف ونقول: هذا حقهم أيضا؟
لبنان يتغيّر. والنازحون السوريون الذين أتحفتنا دولتانا – لبنان وسوريا – بأننا «إخوة» باتوا يقتربون من عدد إخوانهم اللبنانيين. وهذا ليس مجرد رقم بل هو تغيير ديموغرافي حقيقي.
لهذا، اللبنانيون – الذين يغضون الطرف عن جرائم متتالية ترتكب بأيادٍ سورية – يخشون على الغدّ ولبنانهم، وإن كانوا يعدون الى المئة قبل أن ينجبوا وقبل أن يقولوا لأولادهم: تشبثوا في الأرض.
ماذا في المقلب الآخر؟ ماذا عن النازحين السوريين في لبنان؟ كيف يتعاطون اليوم مع المستجدات التي تقلقهم في معيشتهم في لبنان؟ ما هي أسئلتهم؟ وهل هناك من يتلاعب أيضا بهم كما هناك من يتلاعب بنا؟
العمالة السورية
ثمة مجموعات سورية تبحث في مصير من نزحوا من أهلها الى لبنان. هؤلاء ليسو فرحين مثلنا ويتحدثون عن ظلم وقهر وخوف وعنصرية تجاههم في لبنان ويقولون: لا صحة لا تعليم لا مستقبل لا عمل و12 عاماً ضاعت من عمرهم. لبناني، أباً عن جد، سمع أحدهم يقول: السوري هو العامل و»الباطنجي» و»الشغيل» والمزارع والسائق والفران وهو من يزرع الأراضي ويحصدها والبلّاط والحداد والتاجر والفلاح… إنتظروا «كم شهر» وسترون كيف سيُصبح لبنان بلا سوريين. هو كلامٌ يتضمن تحذيراً. اللبناني، الذي سمع هذا الكلام أجاب: يا خيي يا حبيبي ساهم ببلدك بدل «تربيح الجميل: فأنت – وأنتم – لا تعملون مجاناً هنا فاحترموا العقول الراقية.
خطر التجنيد
النازحون السوريون حاقدون على اللبنانيين. هم نزحوا هرباً؟ فليبرهنوا عن ذلك بدل أن ينتخبوا بشار الأسد هاتفين: بشار وبس. هم عمال ينفعون لبنان؟ فماذا عن أطفالٍ ينجبونهم من دون أن يبالوا بمصيرهم. أحد النازحين اشتكى: «دخلت بشكلٍ نظامي من الحدودين – السورية واللبنانية – مع عائلتي وأطفالي. كانوا صغاراً وكبروا وأصبحوا بعمر العسكرية فكيف أعيدهم الى سوريا ويسحبونهم من أمام عيني للموت؟». العسكرية في سوريا تقلق النازحين لكن، ماذا عمن يروحون ويجيئون؟ ماذا عن الأمن العام على الحدود؟ وماذا عن الحدود المشرعة؟ قضية النازحين السوريين ليست سهلة وعلى الدولتين التنسيق حولها.
الله يفرجها عليهم وعلينا. النازحون ليسوا كلهم مجرمين وليس كلهم غير قادرين على الرحيل. لكن، هناك ثمة تحدٍ. هناك نازحون يتحدون اللبنانيين علناً: السوري ذهب الى ألمانيا وأبدع وبنى نفسه بنفسه أفضل بمليون مرة من النازح السوري في لبنان. هم غير معجبين بلبنان يعلنون ذلك جهاراً. وعينهم على ألمانيا وأخواتها. أحدهم ويدعى زين عبدين قال: «نحن السوريوين لا نحب بعضنا، والله لو كنا نحب بعضنا كنا وقفنا جنب بعضنا البعض. شردنا وتعرضنا للذلّ. وأنا مستعد للذهاب الى سوريا وخدمة وطني لكن لا منزل لي. تهدم بيتي في الحرب. وعائلتي «تكسر ظهري». عليّ أن أعمل. لو العيش في سوريا سهل لغادرت حتى لا يأتي لبناني ويهينني. حسبنا الله ونعم الوكيل». سوريّ آخر ردّ عليه: «أنا مثلك. عليّ جيش وبيتي دمّر. وإذا انتقلت الى سوريا سأخدم من دمّر بيتي». ردّ ثالث: «أنا لا أخدم بشار لكني أخدم وطني وبلدي. لا أغلى من سوريا». ردّ رابع: «مشكلتهم في لبنان ليس نحن بل هم من ينزحون إقتصادياً و»الفهمان بس» يعرف معنى كلامي».
هذا رأيهم. فلنسمعهم. هؤلاء يلومون لبنان واللبنانيين ويتحججون بأعذارٍ واللبنانيون يسمعون. وكأن لا يكفيهم ما فيهم ليأتي من يخبرهم عن معاناتهم ويزاحمهم على أرزاقهم.
هم يتحدثون ويكررون: الفرج قريب. ونحن نراهم ونقول: الفرج قريب.
فلتان
أحد ممن نزحوا الى لبنان عاد الى سوريا معلناً: «الحمدلله خلصت من لبنان وقرفه ووصلت الى إدلب، والله يا جماعة المعيشة في إدلب لا تختلف عن المعيشة في لبنان مع فارق واحد أننا هنا، في إدلب، عندنا كرامة». حسناً فعل، وليتنعم بكرامته. أحدهم سأل: «ماذا عن تكلفة المغادرة الى الشام – من دخل خلسة الى لبنان- عبر خط عسكري؟». الجواب أتى سريعاً: «من بيروت الى الشام مئة دولار أميركي، عبر السيارة وليس في الجبال والوديان والطرقات غير الشرعية، ومن يهمه الأمر فليكلمني عبر الخاص». سؤالٌ آخر: وماذا عن تكلفة مغادرة من عليه عسكرية؟ الجواب من سوري ملمّ: «900 دولار. وأحد المهربين ينقل من يريد مغادرة لبنان براً، من معابر غير شرعية، خلال خمسة أيام. أما من تركيا، لو تدفعون مليون دولار فلن تتمكنوا من العبور. الطريق مقفلة». أحد النازحين يدخل ويخرج أعطى شهادته: «ننزل من وادي خالد الى حلب وللأمانة لا أحد يسألنا من أين أتينا ولا الى أين نذهب». الدنيا «داشرة» على تلك الطريق!
«يا شباب من يريد النزول الى إدلب وعليه جيش أو إحتياط أو «إللي هوي» ولا أوراق معه يحكيني على الخاص والتسديد عند الوصول الى إدلب». هذا ما يعد به أحد تجار نقل البشر. قوي يبدو. أحد المهتمين سأله عن التكلفة والجواب: 650 دولاراً.
نازح عبّر عما في قلبه: يا جماعة لا أحد منا يطيق البقاء في لبنان… خلوا اللبنانيين يشبعوا ببلدهم. قرفونا». هنا تدخل تاجر بشر: «مرحبا شباب، فليتكلم معي، عبر الخاص، من يريد النزول الى سوريا أو الصعود الى لبنان». كيف طلعت وكيف نزلت وكيف وكيف وكيف؟ أسئلة كثرت في هذه الأيام مقرونة بحقدٍ كبير على لبنان. أحد اللبنانيين تدخل على خطّ الحديث السوري- السوري: «مضى عليكم وأنتم تأكلون من خير لبنان ولحم أكتافه أعوام طويلة والآن تشتمون وتلعنون ساعته. عيب عليكم». هنا نتذكر مقولة شعب واحد في دولتين التي أتحفونا بها طويلا كم كانت سخيفة.
«لولا السوريين ما كان في لبنان». نازحون يرددون هذه المقولة ويزيدون عليها: «الدنيا دولاب وانشالله ما حصل معنا يتكرر مع أهل لبنان». أحد العمال السوريين علق: «قفزة نوعية لأسعار الخضار في السوق اللبناني بعد امتناع السوريين عن العمل في سوق الخضار بسبب ملاحقة الأمن العام لهم وعدم إيجاد يد عاملة بديلة ما سبّب إستياء لبنانياً. تريدون ترحيل السوريين تحملوا تبعات ذلك».
خدمات مدفوعة
موتوسيكلات معروضة للبيع. مسروقة؟ سؤال تكرر: «معها أوراق؟». معروضات كثيرة على مجموعات السوريين. وأسئلة تتكرر عن مكاتب تؤمن في هذا الوقت الصعود والنزول من سوريا الى لبنان وبالعكس. أحدهم أعطى نصيحة: «لا تدعوا أحداً ينصب عليكم. الآن، وسيلة النصب هي عمل من ليس لديه عمل». وقبل أن يبلع ريقه صدر إعلان: «إخواني من لديه شخص مسجون بعد العام 2016 ويريد إخراجه فليتواصل معي ومن لديه عسكري يريد تسريحه يمكنني مساعدته». الأسئلة أتت أطناناً. كل هذا والإعلانات عن وظائف مؤمنة للسوريين ما زالت كثيرة في لبنان: «مطلوب عامل مع زوجته لاستراحة في عنجر. مطلوب معلم بلاط في بكفيا. مطلوب فلاح سوري. مطلوب ناطور سوري…».
سوري طرح سؤالاً: من عليه منع دخول الى لبنان، هل يستطيع السفر من مطار بيروت؟ سوري آخر أجابه: «توكل على الله، تدفع تسوية خمسة ملايين وتسافر، واحرص أن تكون في مطار بيروت قبل أربع ساعات». هنا تدخل سوري «يعرف البيضة وقشرتها»: «فليتكلم معي من عليه منع وينوي المغادرة عبر المطار و… بأنسب الأسعار… أسعار تعجبكم حلوة».
لا أحد مرتاح، لا السوري ولا اللبناني. قوى الأمن الداخلي تقيم حواجز على الطرقات. السوريون لديهم مصدر معلومات: الكلّ ينضبّ. حاجز على طريق الزلقا عند التاسعة والنصف صباحاً مدته نصف ساعة. وحاجز بعد الظهر في سن الفيل. وحاجز هناك وهنالك… هم «يتضبضبون» عند نشر المعلومة ومن يأكل الضرب: اللبنانيون. البارحة ظهراً، حاجز طيّار عند جسر الواطي على الميلين. زحمة سير. لا دراجات نارية فقط ومركبات ايضاً و99 في المئة منها، أو أقل بقليل، لم يدفع أصحابها رسوم العام 2023. كانت النافعة مقفلة والمعاينة الميكانيكية أيضا. ثمة مخالفات سببها أداء الدولة لا اللبنانيين. فهل عليهم أن يسددوا من جديد «هرطقات» الدولة؟
النازحون السوريون يئسوا من لبنان، «قرفوا»، وعينهم على الرحيل. فماذا يفعل اللبنانيون الصامدون؟