كتبت أسماء إسماعيل في “الاخبار”:
في مطلع أيار، صرّح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بأنه «سيُفتح المجال أمام اللبنانيين للذهاب بهجرة موسمية لدول الاتحاد الأوروبي للعمل هناك موسمياً». ميقاتي قصد أن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتيح للبنان الانضمام إلى القانون الأوروبي المعني بدول استضافة النازحين السوريين، ما يفتح المجال أمام اللبنانيين للهجرة الموسمية إلى دول الاتحاد. بهذا المعنى، سيتاح للبنانيين العمل هناك ضمن مدد تراوح بين ثلاثة أشهر وسنة من دون أن يفتح لهم المجال للاستقرار في البلدان التي يعملون فيها بشكل مؤقت. ميقاتي قدّم الأمر بوصفه «فرصة» بينما أوروبا تتعامل مع الأمر بوصفه استغلالاً لوجود النازحين السوريين في لبنان من أجل استقطاب يد عاملة لبنانية بثمن زهيد لا يرتّب عليها أعباء مالية وديموغرافية.ليست الهجرة الموسمية إلى أوروبا أداة حديثة لاستقطاب العمالة، بل استُخدمت في مدد سابقة بهدف سدّ نقص اليد العاملة واستقدام عمال موسميين. وقد يتم الأمر عبر اتفاقيات بين الدول المعنية، أو بواسطة برامج هجرة تأخذ شكل الاستقطاب على طريقة القطاع الخاص في العرض والطلب. والمهاجرون المؤقتّون لا يستفيدون من المزايا الاجتماعية التي يتمتع بها المقيمون الدائمون، وفي حال تمديد مدة إقامتهم، فتتم غالباً بشروط الإقامة المؤقتة. وبحسب تقرير صادر في أيار 2023 عن المعهد النقابي الأوروبي (ETUI) ومركز بحث الكونفدرالية الأوروبية للنقابات (CES)، فإن المهاجرين من بلدان العالم الثالث إلى أوروبا للعمل مؤقتاً، لا يحصلون على الرعاية الصحية التي يغطيها نظام الضمان الاجتماعي ولا مرتبات التقاعد وغيرها. وهؤلاء لن يتمكّنوا من الحصول على تقديمات الضمان الاجتماعي التي تنضوي تحت شرط الإقامة لمدة سنة على الأقل. ويؤدّي العمال الموسميون أو المؤقّتون في أوروبا أعمالاً مرهقة تتطلب مجهوداً جسدياً كالبناء والزراعة، وهي قطاعات يرفض مزاولتها المواطنون الأصليون، ما يعني أنّ المهاجرين لا ينافسون الأوروبيين بل يسدّون نقصاً في السوق، ولا علاقة لهم بالبطالة في دول أوروبا الـ26.
ما يدفع الأفراد إلى الهجرة للعمل بشكل مؤقّت في أوروبا ضمن هذه الشروط المجحفة، الأوضاع الاقتصادية المتردية في بلدانهم. وهذا هو الحال في لبنان، إذ «لا يمكن إعلان إنجاز (فتح باب الهجرة) سواء أكانت موسمية أم دائمة إذا كانت سياسات الحكومة تصبّ جهدها في تصدير أبناء البلد إلى الخارج» يقول الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات» تعليقاً على تصريح ميقاتي. ويشير نحاس إلى أن «هؤلاء المهاجرين ليسوا بنظر ميقاتي وزملائه، إلّا مغتربين بلا حقوق، يمدّون لبنان بتدفقات مالية من الخارج». في ميزان الاستفادة من هذه الهجرة المؤقتة، يبدو أن الكفة تميل لمصلحة أوروبا. «السوق الأوروبية هي المستفيد الأول من هجرة شبابنا» يقول نحاس.
وفيما ينفي وزير العمل مصطفى بيرم أن يكون قد تلقى أي اتصال من الاتحاد الأوروبي بخصوص تنظيم الهجرة الموسمية من لبنان للعمل في أوروبا، يعتقد الخبير في شؤون التنمية الاقتصادية والاجتماعية كمال حمدان، أن كلام ميقاتي ليس أكثر من «كلام سياسي ومجرد تلويح بالآمال». فمثل هذا القرار، في رأي حمدان «يحتاج إلى مراسيم تنظيمية دونها عقبات هائلة لمن يعرف واقع سوق العمل في أوروبا، ويتتبع معدلات العجز وحيث تتم مراجعة نظم التقاعد والتقديمات الاجتماعية وضمان البطالة وما يحدث من قضم للأجور والرواتب ونسب التعويضات. بالإضافة إلى الحاجة إلى دراسة الخصائص اللغوية والعمرية ومعيارَي الخبرة والمؤهلات وغيرها».
إذاً، المسألة كلّها حتى الآن كلام بكلام. أوروبا تحتاج إلى عمالة رخيصة ولكن لم يصل الأمر إلى التنفيذ. إذ تبدو قابلية العمل في أوروبا متدنية قياساً بمؤشّر الغلاء هناك. فقد تراجعت القدرة الشرائية للمقيمين في أوروبا بعدما تخطّت معدلات التضخم الـ5% بفعل سلسلة أزمات بدأت مع كورونا في مطلع 2020، حين اضطرت أوروبا أن ترسم خطة للتعافي بكلفة 750 مليار يورو وتتطبّقها، ثم تصاعد الأمر مع الحرب الأوكرانية التي أدّت إلى غلاء كبير في أسعار الطاقة بالتزامن مع تمويل الدعم العسكري لأوكرانيا. ورغم التوقعات بانخفاض معدلات التضخم، إلا أنّ وتيرة التباطؤ تتراجع بسبب الإلغاء التدريجي لدعم أسعار الطاقة من قبل الحكومات الأوروبية بالتوازي مع ارتفاع أكلاف الشحن نتيجة اضطراب حركة التجارة في البحر الأحمر.
إزاء هذا الواقع، كيف يمكن لهذه الدول أن تكون ملاذاً للبنانيين الهاربين من أوضاع معيشية خانقة ولخريجي جامعات يجهلون أي مستقبل ينتظرهم؟ «للدول الأوروبية مصلحة في استقدام شباب من ذوي الشهادات والكفاءة لأشهر لا تتكبد خلالها حكومات الاتحاد نفقات تزيد عن الأجور المتفق عليها»، وفقاً لنحاس. يرى الأمر بوصفه «تنظيماً عمليّاً لهجرة المواطنين اللبنانيين وتصديرهم إلى الدول الأوروبية دون إدراجهم في أنظمة الضمان أو حصولهم على تقديمات اجتماعية على غرار المقيمين» وقد تكون هذه الخطوة «بمنزلة مرحلة انتقالية نحو الهجرة الدائمة التي تتأتى منها التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية عينها».
بهذا المعنى، إن لبنان يتحوّل تدريجياً نحو بلد «قيد التصفية»، إذ بات سياسيوه «يمتهنون تعميق تخصّصه في تدريب شبابه تمهيداً لتصديرهم وتقديم كل ما بُذل من أجلهم من وقت وجهد وكلفة في سبيل تعليمهم، كهدية للاتحاد الأوروبي، بوصفه خياراً متاحاً تستطيع الحكومة الإتجار به بذريعة حالة اليأس والقلق الناتجة عن الظروف الاقتصادية الضاغطة والأزمات الاجتماعية المتفاقمة». وبهذه الطريقة «تستمر الحكومة بشخص رئيسها بسَوْق المحدلة الديمغرافية لتصفية المجتمع من شبابه وكفاءاته وإحلال المسنين وبعض أزلام الزعماء والنازحين السوريين عوضاً عنهم».