كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
الأرجح أنّ الموفد الفرنسي جان إيف لودريان لم ينتظر كثيراً ليعرف ماهية النقاشات والإجابات التي ستضعها القوى السياسية، وتحديداً الثنائي الشيعي، أمامه في رحلته الخامسة… غير الحاسمة.
كان يكفيه أن يطالع بعض ما جاء في «الاقتباسات» المنقولة عن رئيس مجلس النواب نبيه بري في الأيام الأخيرة التي سبقت وصوله إلى بيروت لا سيّما لجهة حقّ اللبنانيين في اختيار من يريدون للرئاسة ولجهة أهمية الحوار، وأن يتمّ إبلاغه فحوى الإطلالة الإعلامية التي أجراها رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية مؤكداً بالفم الملآن أنّه غير مستعدّ للانسحاب من السباق الرئاسي وأنّ حلفاءه ليسوا بوارد التخلّي عنه أو الطلب منه التراجع إلى الخلف… لكي يتيقّن أنّ الثنائي أقفل الباب مبكراً، وأنّ الرئاسة اللبنانية لا تزال في مربّع الاستعصاء.
قبل أسابيع من عودة الموفد الفرنسي، اعتقد سفراء اللجنة الخماسية أنّ مناخاً تساهلياً استجدّ على مواقف القوى المعنية، لا بل ذهب بعضهم إلى حدّ الجزم بأنّ الأطراف المعنية باتت بكامل القناعة بأنّه لا مفرّ من البحث في المرشح الثالث طالما أنّ المعادلة القائمة منذ 31 تشرين الأول 2022 مقفلة وسيصعب في ظلّها إحداث أي خرق. بناء عليه، غلبت الفكرة التي تقول بضرورة ممارسة المزيد من الضغوط، المعنوية طبعاً، وهذه المرة عبر لودريان، تحت عنوان إمّا تسريع عجلة الاستحقاق قبل انخراط الإدارة الأميركية في السباق إلى البيت الأبيض، خصوصاً أنّ بند لبنان سيكون حاضراً على جدول أعمال القمة الفرنسية- الأميركية، وإمّا وضع الملف اللبناني على الرفّ وترحيله إلى زمن غير محدّد، على اعتبار أنّ الاهتمام الدولي به سيخفّ كثيراً في المرحلة المقبلة.
وفق هذه الصيغة، حاول سفراء الخماسية ومعهم لودريان، الدفع باتّجاه مزيد من الدينامية في الملف الرئاسي، على أمل تحقيق بعض التقدّم الذي يتيح تجهيز الملف بانتظار التوقيت المناسب. وهنا يبدو أنّ هناك أكثر من رأي بهذا الشأن: حتى الساعة يتصرّف الفرنسيون على قاعدة الضغط لفصل الملف الرئاسي عن بقية الملفات وتحديداً ملف الجنوب المرتبط ارتباطاً وثيقاً بملف غزة. فيما بات الأميركيون على قناعة تامة بأنّ الفصل صعب جداً وبالتالي صار الربط مفروضاً لا خياراً بين الرئاسة والجنوب وغزة. وكلّ ما يمكن القيام به في هذه المرحلة هو تهيئة الأجواء بانتظار توقف الأعمال العسكرية.
هذا بالنسبة للتوقيت، أما بالنسبة للمعايير، فتدلّ المؤشرات على أنّ التوافقَ ثابتٌ بين مكونات الخماسية حول ضرورة الذهاب إلى مرشح ثالث. صحيح أنّ لكل دولة حراكها ومبادرتها المرتبطة بخصوصيتها، ولكن في الجولة النهائية الكلام سيكون أميركياً، إيرانياً وسعودياً… رغم الكلام عن نأي سعودي عن الملف اللبناني. إلّا أنّ المعنيين يجزمون أنّ السعودية ستكون حاضرة في التسوية الرئاسية وشريكة في المرحلة المقبلة ولكن وفق قواعد محددة وضعتها ضمن رؤيتها الاستراتيجية لعلاقتها بدول المنطقة والتي تقوم على أساس اتفاقات مشتركة (ثمة 22 اتفاقاً مع لبنان ينتظر توقيعها)، ويفترض أن تكون الرئاسة اللبنانية مدخلاً لمرحلة من الاستقرار السياسي والاقتصادي. ولهذا ثمة ربط عضوي بين مواصفات الرئيس المقبل وبين عنوان المرحلة التي ستواكبه. بمعنى أنّ الرئيس الجديد يجب أن يكون مُلمّاً بالملف الاقتصادي ويتمتع بالقدرة على مفاوضة الجهات الدولية والنقدية، وألا يكون طرفاً سياسياً أو أن يشكل زعامة قد تثير خشية الأطراف المسيحية، ومن الطبيعي ألا يكون منغمساً بالفساد.
ولكن يبدو أنّه لن يُكتب للودريان أن يوفّق كثيراً في رحلته طالما أنّ مكتوبها يُقرأ من عنوانها، أو من العناوين التي سبقتها، مع العلم أنّه مكلف بوضع تقرير جديد عن آخر مستجدات مواقف القوى اللبنانية لوضعها على طاولة إيمانويل ماكرون- جو بايدن. إذ تفيد المعلومات أنّ الخلاصة الأولى التي خرج بها الموفد الفرنسي تدلّ على أنّ القوى اللبنانية لا تزال على «عنادها».
وفي التفاصيل، فقد تبدّى التباعد بين لودريان والثنائي الشيعي في أكثر من نقطة:
– يطرح لودريان مبدأ التشاور الضبابيّ في آلياته ويتفنّن في استخدام التعابير والأوصاف والمخارج الشكلية التي لا تعالج المضمون، فيما الثنائي يصرّ على حوار بإدارة الرئيس بري وتحت قبّة البرلمان.
– يتحدث لودريان رسمياً عن المرشح الثالث بينما الثنائي لا يزال متمسّكاً بفرنجية.
ويرى المطلعون أنّ هذا الاستعصاء يعود إلى تمسّك الثنائي الشيعي بموقفه في الوقت الحالي، لواحد من سببين أو للاثنين معاً: رفض «حزب الله» التنازل في الملف الرئاسي في توقيت إقليمي شديد الحساسية والدقة لكي لا يفسّر على أنّه في موقف ضعيف قد يفتح الشهية لفرض المزيد من التنازلات عليه. إبقاء الأولوية للملف الجنوبي وبالتالي إقفال الرئاسة إلى حين حسم الملف الحدودي. ومن هنا الإصرار على الربط بين المسألتين، لتكون الحجة: الرئاسة لم تنضج بعد.