كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
تتشارك البلدات الجنوبية المعاناة ذاتها. قصف وتهجير، مع كلّ ما تحمله الحروب من ويلات هذه الآلة الضخمة الصمّاء. غير أنّ لبعض القرى الحدودية شجوناً وهموماً تتخطّى الدمار و»بهدلة» النزوح ومسألة التعويضات، طارحةً هواجس الوجود والبقاء. خوفٌ من أن تضع الحرب أوزارها ولا يعود من رحل بسببها وخوف من أن تتكرّر مأساة بجرّين، تلك البلدة الجبيلية التي هجرها أهلها مرغمين خلال الحرب العالمية الأولى.
عند ذاك الشريط الشائك وفي زوايا الخارطة الساخنة، تقع بلدتا القوزح (قضاء بنت جبيل) في شطرها الأوسط – الغربي، وأبو قمحة (قضاء حاصبيا) في شطرها الشرقي. تتشابهان في أنهما من أصغر البلدات الجنوبية والمسيحية ديموغرافيّاً وعمرانيّاً، لكنّهما تتمايزان برائحتهما القروية وبساطة عيش سكّانهما وتآلفهم مع الطبيعة حتى التآخي والإتكال على ما تهبه لهم الحقول عقب تعاقب الفصول.
في تلك القرى الصامتة والغارقة في أحلام فلّاحيها وأبنائها المتواضعين، قبل أن توقظهم «السيوف الحديدية» (اسم الحرب التي أطلقتها إسرائيل ردّاً على «طوفان الأقصى»)، ليس ما يعزّي أهاليها سوى أن تُسمَع أصواتهم داخل سجنهم المطوّق بين «طريق القدس» من جهة، وملعب الهواء المستباح أمام الطائرات الإسرائيلية وقذائفها المدفعية من جهة أخرى. أن يُقال ما لا يقال تحت أزيز القذائف والصواريخ والمقاتلين.
شبح التدمير يتمدّد
في القوزح، أكثر ما يخشاه أهلها هو أن تقضي المعارك والاستهدافات على ما تبقّى من منازلها وتفريغ سكّانها حتى بعد انتهاء هذه الحفلة العسكرية. فالبلدة وفق أحد أبنائها، قد استنزفتها السنين، إذ دفعت العديد منهم على مراحل نحو المَهَاجر ومناطق بيروت والمتن. قبل الأزمة، كان يقطنها نحو 200 شخص من أصل ألفي نسمة تقريباً. مع بدء المعارك نزح القسم الأكبر من سكّانها، لكن بعد فترة وخصوصاً خلال عطلة عيد الفصح، ارتفع عدد العائلات إلى 14.
إلّا أن الغارة الإسرائيلية التي استهدفت أحد منازلها في السابع والعشرين من نيسان الفائت، في الحارة القديمة أو ما يعرف بالـ»زقاق» حيث تنتشر البيوت العتيقة، والقصف المدفعي الذي لحقها الأسبوع الفائت على بعض المنازل، قد قضيا على ما تبقّى من آمال. إذ لم يعد فيها سوى 5 عائلات فقط. أمّا البقية فتوجّهوا نحو رميش، دبل وعين إبل. وما فعلته الأزمات الاقتصادية وغياب مشاريع التنمية المستدامة من تهجير بطيء على مرّ السنوات، حقّقته الحرب بأيام معدودة. ليبقى السؤال وفق محدّثنا: كم عائلة ستعود بعد انتهاء المعارك والوصول إلى تسوية ما؟ فأبواب النزوح مفتوحة دوماً على القرى الصغيرة أكثر من غيرها، على عكس البلدات المتوسّطة والكبيرة حيث حركتها الاقتصادية ومقوّمات العيش فيها متوفّرة إلى حدّ ما. ولعلّ الصرخة التي تخنق أهلها: لماذا نُورّط في حربٍ لا خيار لنا فيها؟ لماذا يتمّ إقحام منازلنا ضمن أهداف العدوان الإسرائيلي الذي يبحث عن ذرائع لتفريغ الشريط الحدودي من سكّانه أو جعله منطقة عازلة وغير قابلة للحياة؟
تكمن هواجس أهل القوزح في تمدّد شبح الدمار أكثر فأكثر بين منازلها وحاراتها وفي أن يكون مصيرهم كجيرانهم في عيتا الشعب ورامية ومروحين والضهيرة ويارين وعلما الشعب والبلدات المهدّمة الأخرى، مع فارق هو أنّ ديموغرافية القوزح قد تتقلّص أكثر مما كانت عليه قبل الثامن من تشرين الأوّل، وهذا مرهون بواقع المرحلة المقبلة؛ أي نسبة التعويضات ومدّة صرفها وعودة الحياة إلى طبيعتها، وإلى حينه قد يكون بعض النازحين قد أسّسوا حياتهم الجديدة في جبل لبنان أو خارج الوطن.
بلدة القمح
في القسم الشرقي من الحدود اللبنانية الجنوبية وتحديداً في قضاء حاصبيا، هناك قرية جميلة هادئة تسكن وسط كروم الزيتون والعنب والسندان والملّول وأشجارها المثمرة وطيبة أهلها. اسمها غريب وجذّاب، يدعو للبحث عن أصلها وموقعها وقصّتها. ربّما للحروب فائدة يتيمة، أنها تُسلّط الضوء على أماكن وأناس وبلدات كانت مختبئة ومستورة بين أوراق السلم الهشّ. إنها أبو قمحة، هذه البلدة القليلة بعديد سكّانها وعدد منازلها، لكنّها مفعمة بتراثها الديني والتاريخي.
يعود أصل الاسم وفق مرويات أهلها ومختارها نعمة أبو راشد، إلى أنّ أول من سكن القرية كانوا من الفلاحين الذين اهتمّوا بزراعة القمح حتى ذاع صيتهم في الجوار، ما دفع أحد السكّان إلى تسمية ابنته «قمحة»، فأطلق الأهالي على موطنهم الجديد «أبو قمحة» إشارة إلى بلدة القمح. ويذكر التقليد أنّ زمن نشوئها يعود إلى عهد الأمير فخر الدين الثاني. وهناك قول مأثور في منطقة حاصبيا: «لا تدلّ ابن بو قمحة على درب سوق الخان»، ويروي نهر الحاصباني القسم الأكبر من أراضيها ومزروعاتها.
ولأنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، بنى السكّان الذين ينتمون إلى طائفة الروم الأرثوذكس كنيسة حملت اسم شفيعها القديس الشهيد والمحارب جاورجيوس، ومن العلامات البارزة التي تشتهر بها أبو قمحة، هي وجود حوافر خيل محفورة في صخرة قرب كنيسة البلدة الأثرية. ويعتقد المؤمنون أنها تعود لحصان القديس جاورجيوس الذي مرّ بتلك الناحية في العهد الروماني. ويحتفلون كل سنّة بعيد شفيعهم في ساحة القرية ويشاركهم أهالي الجوار كافّة.
لا قصف مباشراً
يبلغ عدد سكان أبو قمحة حوالى 125 شخصاً، يسكنها حالياً سبعون منهم. واقع البلدة في الظروف الراهنة يختلف عن القوزح، فالقرية حتّى الآن لم تتعرّض للقصف المباشر رغم الاستهدافات التي تطال محيطها وأطرافها وبعض البلدات. هذه حال قضاء حاصبيا الذي لم يشهد معارك ضارية وتدميراً واسعاً مقارنة مع الأقضية الحدودية الأخرى كبنت جبيل ومرجعيون وصور. غير أن التداعيات الاقتصادية والمعيشية انعكست على معظم القرى ومنها أبو قمحة.
ويشير المختار أبو راشد إلى أن السياحة الدينية والبيئية التي نشطت في السنوات الأخيرة لا سيما مع تشييد مزاري سيدة حرمون بأعالي بلدة كوكبا وسيدة صيدنايا في حاصبيا، وانتشار «الشاليهات» والمنتزهات والمطاعم في المنطقة، شكّلت عوامل جذب للسيّاح من مختلف المناطق اللبنانية والإغتراب، حيث كان يحطّ الوافدون في قريتنا للاستمتاع بالطبيعة وروح السكينة والهدوء. بيد أنّ الحرب الدائرة اليوم، باتت تشكّل تهديداً للقمة العيش. كما أن تصريف المنتجات الزراعية انخفض كثيراً عمّا كان عليه قبل الثامن من تشرين الأوّل، ما قد يدفع بعض الناس إلى النزوح. في المقابل، يتمنّى المختار أن تبقى «الضيعة» بعيدة عن مرمى الغارات والقصف، كي يتسنّى لنا البقاء في أرضنا التي عشنا فيها وورثنا تاريخها وربوعها وخيراتها عن أهلنا وأجدادنا منذ مئات السنين.
في الخلاصة، صحيح أن الحروب لا تميّز بين بلدات كبيرة أو صغيرة، وأن الهموم والعذابات مشتركة، غير أن كلفتها تكون أقسى على تلك القرى النائية. لأنّ، كلّ بيت يُقفل أكان بالقصف أم بالرحيل، قد يدفع بجيرانه إلى المغادرة أيضاً، فالنزوح يجرّ النزوح. والتعاضد الذي تميّزت به القرى اللبنانية، يستند بشكل أساسي على روح الإلفة والمحبة من ناحية، والنموّ السكّاني والإنمائي من ناحية أخرى.