IMLebanon

تهافت خطاب “الشيعية السياسية”

كتب محمد علي مقلد في “نداء الوطن”:

بتنا نحفظ غيباً ما تقوله الشيعية السياسية رداً على أسئلة مشروعة يطرحها المواطنون اللبنانيون. يحتجب حزبيو الثنائي عن المقابلات الإعلامية وينوب عنهم مقربون يحسبون أنفسهم عليه وينتمون إليه عن بعد حتى لا يحملوه غرم هفواتهم، فيبقى له وحده الغنم، غير أنّ الغرم هو في تهافت الخطاب كائناً من كان الناطق به.

التهافت مصدره أولاً وآخراً ذرائع استمرت متماسكة منذ تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي حتى حرب تموز 2006، ثم راحت تتهاوى شيئاً فشيئاً حتى انهارت مع حرب المشاغلة، وهي كلها تدور حول موضوعي السلاح والمقاومة.

عدا عما ورد في خطابات الأمين العام لـ»حزب الله» عن السلاح لحماية لبنان من العدوانية الإسرائيلية، ثم لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ثم للدفاع عن المياه الجوفية داخل الأراضي اللبنانية، ثم عن قرى لبنانية داخل الحدود السورية وعن المقدسات الشيعية في سوريا، ثم عن النفط في البحر، وهي حجج ومبررات سقطت كلها عند شعار السلاح دفاعاً عن السلاح، وعند التنازلات التي قدمتها الحكومة اللبنانية في المفاوضات البحرية بموافقة الثنائي ومباركته. الناطقون باسمه يكررون هذه الذرائع كالببغاء ويبتكرون أفكاراً مشتقة من نتائج «النصر الإلهي» في حرب تموز ومن شعار «إن عدتم عدنا».

المضمر في خطاب الثنائي تحويل «المقاومة» إلى بديل من الجيش اللبناني، والذريعة أنّها وحدها انتصرت فيما انهزمت الجيوش العربية كلها. تسويغاً لهذا المضمر تكررت أفكار عن أنّ الغرب المنحاز للصهيونية يحجب السلاح عن لبنان وأنّ الحكومات المنحازة للغرب ترفض تزويد جيشها بسلاح فعال من الجمهورية الإسلامية في إيران. ابتكر الثنائي بدعة «الجيش والشعب والمقاومة» وأدخلها في نصوص البيانات الحكومية وبات التخلي عنها بمثابة استسلام للعدو ونكران لجميل ما صنعته المقاومة من أجل الوطن.

أقنع الثنائي جمهوره بأنّ المقاومة هي وحدها القادرة على حماية الجنوب من العدوان الإسرائيلي، واستمرت هذه الفكرة تتكرر على ألسنة أتباع الثنائي على امتداد السنوات التي تلت حرب تموز. مع حرب المشاغلة تراجعت «القدرة على الحماية» حتى حدود إحصاء الخسائر بالأرواح والممتلكات واتهام الخلوي بالعمالة واستبدلت «بالقدرة على الرد»، فتحولت الحرب إلى حرب عدادات تتلى فيها عند كل مساء أسماء الشهداء ويصير القتلى مجرد أرقام وتسقط من الحسابات الخسائر بالممتلكات والآثار النفسية على المهجرين والاقتصادية على الوطن.

الثنائي يعتد بالأعداد وبالأرقام حين المقارنة مع خصومه فيتباهى بقدرته على الحشد الطائفي، إلا تلك التي أفرزتها صناديق الاقتراع في جميع الانتخابات بعد اغتيال رفيق الحريري، فقد أصر على عدم الاعتراف بها وألغى نتائجها بأساليب التشبيح الميليشيوي، فحذا، بناء على مقتضى التحشيد الطائفي، حذو أنظمة الحزب الواحد الاستبدادية، واقترح الاستفتاء بدل الانتخاب، ولم ينقص من البدع الدستورية سوى لجنة الترشيحات السوفياتية الأصل والمصرية السورية بالتبني أو مصلحة تشخيص النظام الإيرانية.

آخر تلك البدع استبدال الانتخاب بالحوار. وهو ليس إلا ما يقترحه الثنائي ويرضى عنه. لا مبادرة نواب التغيير ولا مبادرة نواب «الاعتدال» ولا «اللقاء الديمقراطي» ولا «التيار الوطني الحر»، ولا جولات الفرنسي جان ايف لودريان ولا مكوكيات الخماسية، ولا التصريحات والمؤتمرات الصحافية والمماحكات الإعلامية بين سائر مكونات البرلمان، هذه كلها ليست حواراً. الحوار الوحيد الصحيح هو الذي يرئسه نبيه بري. كأنه لا يريد من الحوار إلا رئاسة الحوار، أو كأنها مناورة قيس في مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي، حتى قيل له: امض قيسُ امض جئت تطلبُ ناراً…. أم تُرى جئتَ تُشعل البيت نارا؟ ومعناه بالمحاكاة، جئت تطلب حواراً أم جئت تلغي الحوارات وتعطل الدستور؟

ينطبق على كل هذه الذرائع والحجج المثل القائل»حجة ما بتقلي عجة». المعيار هو الموقف من الدولة. الثنائي يستكمل مسيرة بدأتها قوى في السلطة ثم أحزاب المعارضة، حين أنشئت ميليشيات وأقيمت مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة واستدرجت قوى خارجية لتستقوي على خصومها منذ الأسطول السادس على ساحل الأوزاعي حتى وحدة الساحات بقيادة الحرس الثوري الإيراني، مروراً بجيوش صديقة وعدوة، التحرير الفلسطيني والردع السوري والاحتلال الإسرائيلي.

«البادئ أظلم». هذا صحيح. لكن الثنائي يستكمل، كما في سباق البدل، مسيرة انتهاك الدستور وتقويض أسس الدولة، ويشحن جمهوره بالطائفية والمذهبية ويمنع عنه المعارف الأولية المتعلقة بتاريخ نشوء الأوطان والدساتير والدول الحديثة، ويلقنه الذرائع والحجج عن ظهر قلب مثلما يحفظ التلامذة الاستظهار المدرسي.

لا شك في أنّ كلفة تهافت الخطاب باهظة. ذلك أنّ نزع الأفكار الخاطئة من العقول ليس بالأمر السهل بل صعب ومؤلم لأنه يحتاج إلى هذا الحجم من الدماء والدمار.