كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
بعدما أنهى جولته في لبنان، زار الموفد الفرنسي جان إيف لودريان الفاتيكان، حيث التقى أمين سر الفاتيكان بيترو بارولين وأمين سر الفاتيكان للعلاقات مع الدول بول ريشارد غالاغر. اللقاء ليس الأول بين المسؤولين الثلاثة الذين يعرفون لبنان جيداً. خلال مهمته وزيراً للخارجية في الولاية الأولى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التقى لورديان الذي كان قد بدأ خطاباً متشدّداً تجاه الوضع اللبناني، في كانون الأول 2020، بارولين وغالاغر، وكان لبنان أحد ملفات البحث بينهم. كذلك يعرف الكاردينالان لبنان جيداً، لكن لكل منهما نظرته إلى سبل الحل التي يفترض سلوكها لإنقاذه. فقد سبق لغالاغر أن ذهب خلال زيارته للبنان عام 2022، في منحى خارج المألوف السائد، حين تلاقى مع سياسة فرنسا التي فتحت خطوط اتصال مع حزب الله. وبعد الضجة التي أثارها كلامه الواضح وغير الملتبس بضرورة الحوار مع حزب الله، حصل ضغط لبناني مضاد في الفاتيكان ومعه دوائر فرنسية معترضة على أداء فريق الإليزيه، أعاد بارولين الإمساك بدبلوماسية الفاتيكان تجاه لبنان، والتزم المسار التقليدي في العلاقة مع المكوّنات اللبنانية من دون سيناريوهات تثير قلق من أبدوا اعتراضاً على توجهات غالاغر. وبارولين الذي يفترض أن يزور لبنان قريباً سبق أن أبدى خلال زيارة سابقة، بعد انفجار المرفأ، وفي تصريحات متكررة، خشية على لبنان ومستقبله. وقد يكون السفير البابوي الحالي باولو بورجيا أكثر من عبّروا عن هذه السياسة في الأشهر الأخيرة، ولا سيما من خلال محطاته الجنوبية واهتمامه بحضور المسيحيين في بلداتهم الحدودية، إضافة إلى تأكيده مراراً على ضرورة إبداء القوى السياسية دوراً أكثر فاعلية في الاهتمام بمستقبل بلدها ومعالجة أزماته الداخلية.مع تعيين لودريان موفداً لماكرون، تغير التوجه الفرنسي الذي فرض إيقاعه بعد انفجار الرابع من آب. فعمل لودريان على وضع إطار جديد لعلاقة فرنسا مع القوى السياسية، ومنها حزب الله، بعد الطريق الذي سلكه فريق الإليزيه الذي عيّنه ماكرون (قبل إبعاده عن ملف لبنان) ودبلوماسيو السفارة في بيروت تحديداً مع السفيرة السابقة آن غريو. ومع اللجنة الخماسية، بدأ لودريان يكرّس تحولاً فرنسياً في التعاطي بحذر مع المطبات اللبنانية، وعدم المغامرة في سلوك اتجاه لا يرحب به أعضاء «الخماسية»، ولا سيما واشنطن والرياض. وهو، في زيارته الأخيرة لبيروت، لم يحمل أي مبادرة، وجلّ ما كان يعنيه ما سبق الكشف عنه وما قاله لاحقاً بأن الوضع اللبناني لم يعد يحتمل مزيداً من الأزمات، وأن مستقبل لبنان على المحك.
وهذه الخلاصة هي جوهر زيارته للفاتيكان بتنسيق ثنائي، فيما تتحدث معلومات الطرفين عن مصلحة مشتركة في اللقاء بينهما. فالفاتيكان يريد استطلاع الوضع اللبناني، وما يمكن القيام به بما يتعدى الملف الرئاسي، وإن كان ذلك أولوية. لكن مستقبل لبنان يعني الكرسي الرسولي من خلال الاتصالات المكثفة مع العواصم المعنية ولا سيما واشنطن، كما مع فرنسا في شكل دائم، والحفاظ على زيارات دورية على أعلى المستويات إلى لبنان، إذ يريد الفاتيكان استيضاح موقع لبنان في التحولات في المنطقة، ومستقبله، وكيفية الحفاظ عليه وعلى مكوّناته والحضور المسيحي فيه وفي المنطقة. في المقابل تريد فرنسا، بعد التطورات الأخيرة، طمأنة القوى المسيحية – المارونية التي تعترض على أداء الدبلوماسية الفرنسية في السنوات الأخيرة، وتلمح إلى مؤامرة سلكتها إدارة ماكرون على حضور هذه القوى في الخريطة السياسية. كما تريد فرنسا، بالتواصل مع الفاتيكان، تأكيد سياستها المتوازنة وعدم الانحياز لأي طرف، وسعيها إلى ضمان مستقبل لبنان وتحييده عن الصراعات في المنطقة.
في أحيان كثيرة تلعب شخصيات المتحاورين وتوجهاتهم الشخصية دوراً أساسياً في إدارة التفاوض حول قضايا جوهرية. وقد ينطبق ذلك على اللقاء بين لودريان وبارولين، وكلاهما يبديان اهتماماً بلبنان في شكل لا لبس فيه، ويحرصان على توجيه رسائل واضحة حيال ما يمكن القيام به بما هو أبعد من ملف الرئاسيات. وإذا كانت فرنسا منشغلة حالياً في أوضاعها الداخلية، فإن تحرك الفاتيكان على أكثر من مستوى من شأنه أن يحافظ على وتيرة فاعلة في العمل على منع تفلت الوضع اللبناني وانجراره إلى ما يُحضّر للمنطقة من تحولات. المشكلة في المقابل أنه بقدر سعي الفاتيكان وفرنسا – بعد عودتها إلى خط اللجنة الخماسية – إلى إيجاد مساحة مشتركة ومقاربة الوضع اللبناني بطريقة فاعلة، لا يجد الطرفان من يلاقيهما في لبنان في منتصف الطريق، وهذا من مآخذهما على القوى السياسية.